قصة قصيرة "في قريتنا علماني"

الصورة
قصة قصيرة في قريبتنا علماني | بقلم: محمد العودات
قصة قصيرة في قريبتنا علماني | بقلم: محمد العودات

بقلم محمد العودات | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

المفلوج هكذا كانت تناديه أمه، بشعره الجعد القطط وصفحة وجهه الواسعة، سمرة تكسو ملامحه، لا يمل من اللعب والحياة العشوائية، كتبه مبعثرة لا يجلس للدراسة إلا بعد عناء طويل، بنطاله رخو الرباط تبان منه أطراف عجزه، يحاول أن يتحدث العربية الفصحى يقلد ما يشاهده في أفلام الكرتون ويردد عبارته الدائمة المشهورة "أيها الشقي"، إذا ما ذهب إلى الكرم الغربي بصحبة أهله كان يركب جذع التينة الكبير كالحصان ويمسك بيده حبلة على أنها خطام للخيل، يثير الأصوات العالية والجلبة من على حصانه المزعوم وما ينزل عن جذع التينة حتى يقفل أهله عائدين إلى بيتهم في المساء.

وما أن دخل المرحلة الثانوية حتى تبدلت أحواله، بدا أكثر انضباطا واهتماما بالدراسة والهندام، فاجأ الجميع بتحصيله الدراسي وحصل على بعثة لدراسة العلوم السياسية في الخارج، سنوات قليلة عاد المفلوج "الأستاذ أحمد" إلى القرية وقد أصبح أنيق المظهر هادئ الكلام حليق اللحية والشارب يتحدث بهدوء يتسلسل بأفكاره ومنطقه، لا يسمح بالعشوائية في تبادل الرأي والنقاش، ينتظر حتى يكمل محدثه الكلام ثم يبدأ.

قلبه معلق في العراق وكل ما يتعلق بها، يتحدث دائما عن الحضارات العراقية المتعاقبة منذ حضارة ما بين الرافدين، يأكل القيمر ودبس التمر والمن والسلوى حتى تطبع بطباعهم وأصبح يشتهي الإفطار المشبع بالدهون والكبدة والكوارع والفوارغ، في صوته لكنة عراقية متوارية، إذا ما لعب أي فريق مع المنتخب العراقي يجلس أمام الشاشة ليشجع المنتخب العراقي، التحق المفلوج "الأستاذ أحمد" في وزارة الخارجية، كان يعود من دوامه في كل يوم آخر النهار يشاهده "دحمس" ابن صاحب البقالة يحمل بعض الكتب عن الفلسفة عندما يمر على دكانة والده.

يقف المفلوج على نصبة الدكانة يلتهم عشرة من حبات الشوكولاتة الرديئة فهو شره نهم في أكل كل ما هو حلو، كان يتوتر عندما تنصحه أمه أن يخفف من سمنته وأن الحلوى لا تناسبه، يأخذ صندوقا من الدخان وعلبة كبريت ثم يعود إلى بيته، مع الأيام بدأ يمازح المفلوج دحمس هذا الشاب الذي تكاد ترى عظم فكيه من نحالته وبطنه يلتصق في ظهره، يجلس المفلوج إلى جانب البقال خلف الكاشير يطالع المفلوج هذه البقالة المتواضعة، رفوف تكاد تخلو من البضاعة، مناصب حديدية عليها بعض صناديق الخضرة وكيس من القضامة، حبال من الحلو للأطفال معلقة على أطراف الرفوف، أوانٍ زجاجية مملوءة بالعلوك الملونة، أكياس الخبز معلقة في مظلة البقالة تتأرجح وكأنها على منصة الإعدام.

في كلام المفلوج غمز من طرف خفي في أهل الدين والمساجد، يشعر دحمس أن المفلوج ينظر إليهم بنصف عين، في كلام المفلوج ما يصارع دواخله وما تربى عليه، أخذ دحمس يهرب من نفسه ووساوسه التي أشعلها المفلوج في رأسه عن المتدينين، يفكر دحمس في شبهات الرجل وما يطرحه، كيف يكون الدين أفيون الشعوب؟! وهل للدين دور في تخلف الأمم وانتكاس الحضارات؟! كما يزعم المفلوج، ولماذا نهض الغرب الذي لا يهتم بالدين، والشيوعية الملحدة بينما تخلفنا ونحن نعيش كل حياتنا من أجل الدين والالتزام به وبأحكامه؟ أسئلة يشعر دحمس أنها تفجر رأسه الصغير على تلك الفلسفات.

ما أن يسلم دحمس مناوبة البقالة لوالده في الغروب حتى يذهب إلى المسجد للصلاة يجلس بين المغرب والعشاء لقراءة القرآن والذكر، المسجد هادئ ساكن وادع يبث الراحة والطمأنينة، سجاد من كل الألوان شبابيك طويلة بزجاجها الملون المزركش، خيوط تسطر المسجد ليقف عليها الناس في صلاتهم، مكتبة المسجد محشوة بالكتب ذات الورق الأصفر القديم تكاد المكتبة أن تكون مهجورة لا أحد يقترب منها إلا نادرا، يطالع دحمس كبار السن وقد أركوا ظهورهم على أعمدة المسجد ونصبوا المصاحف أمامهم يجلسون على جواعد من صوف يتلون أيات لله، بالتلاوة يمدون أمامهم بساط النور على طريق الخلاص والخلود فقد دنت أيام الرحيل ولم يبق من العمر بقدر ما مضى.

نعامة والدة دحمس بطنها مكور أمامها تحمل جنينها المنتظر، وجهها تعلوه صفرة مع طبقة من الكلف الأسود، شفاهها منتفخة كأنها شفاه النوق، تنقل نفسها في البيت بتثاقل وهي تسند قاع ظهرها بكفها، وما أن وضعت مائدة العشاء المتواضعة حتى بدأ دحمس يحدث والده بما يقوله المفلوج عندما يزور البقالة، لم يفهم والده عليه ولم يهتم بما يقوله، نعامة بدأت تضرب كفا بكف وهي تبكي بأن ولدها أصبح يردد ما يقوله المفلوج، سيكون مصير ولدها النار يوم القيامة، تبكي وتخشى على مصيره وتطلب من زوجها أن يطرد المفلوج من البقالة، وهي تلح لا تبيعوه ولا تجلسوه في الدكانة، وزوجها غير مكترث بكل تلك الأحاديث ما يهمه ما يشتريه المفلوج كل يوم من البقالة وما يدخله على البقالة من ربح، إلا أن نعامة لم تستسلم لعدم مبالاة زوجها وأخذت تحرض على المفلوج، تكيل له التهم ولكل من هم على شاكلته وتردد ما سمعته في مضافة خالها المختار من أن هؤلاء الكفرة ينكحون محارمهم ولا يؤمنون بوجد رب ويضعون الخمرة في ثلاجة البيت ولا هم لهم إلا هدم المساجد وتعرية البنات.

نظر والد دحمس إليها بعين الشذر وهو يكتم غضبه، ما تقوله زوجته عن المفلوج لا تفعله البهائم فكيف بإنسان يعرفونه ويعرفون أهله وناسه، ناصحا إياها أن تهدأ وأنه يريد أن يسمع من الرجل لا أن يسمع عنه، في اليوم التالي كان المفلوج أمام البقالة كعادته يلتهم الشوكولاتة الرديئة ويشتري الدخان والكبريت، أمسكه والد دحمس من يده وطلب منه أن يرافقه إلى منزله في الطابق الثاني، صعد المفلوج إلى الدار.. درج متهالك، الدهان طبقات متقشرة، والسياج الحديدي يتأرجح على حافة الدرج والصدأ يأكل أطرافه، البيت كل ما فيه متهالك، جلس المفلوج في غرفة المجلس.. الكراسي يخرج منها الإسفنج، والسجادة قد كحت لونها، مهترئة كأنها خرقة بالية في قاع الغرفة، يحدث نفسه أي بؤس تعيش هذه العائلة، أخذ والد دحمس يحدث المفلوج عن رأيه في نكاح المحارم، ضحك المفلوج حتى خرج الشاي من أنفه، أدرك المفلوج الأمر وأخذ يحدث والد دحمس عن الفقر والفقراء وطبقة العمال والهجمة الغربية المتوحشة التي تريد نهب الخيرات، هذه الهجمة المتحالفة مع رجال الدين للسيطرة على الشعوب ونهبها والظلم الذي يحيق بالمرأة التي تمنع أن تفعل ما تريد، في شق من الكلام أسر المفلوج لب والد دحمس لكنه بقي في صدره غواش من حديثه عن الدين وأهل الدين، فهو يعرف الدين ومعتاد إلى الذهاب للمسجد ومخالطة المتدينين، من أين يأتي المفلوج بهذا الحديث عنهم الذي لا صحة له، نعامة تقف في طرف الغرفة تستمع لما يتحدث به المفلوج، وبعد أن خرج طلبت من زوجها أن يطرد المفلوج من الدكانة وأن يحمي ولده من هذا الفاسق عن الدين، لكن زوجها أشاح بوجهه عنها وطلب منها أن لا تعود إلى الحديث عن المفلوج فأمر الرجل لا يهمهم وكل ما بينهم أنه يشتري ويتكسبون منه كزبون فقط.

نعامة لم تكن لتستسلم لبرود زوجها اتجاه المفلوج وتخشى أن يختطف عقل ولدها ويورده المهالك، تذكر زوجها بما فعله مؤذن المسجد لها وكيف عالجها عندما تعبت وأصابها الجني بالعين كما أخبرها الشيخ عمير وتحسنت، زوجها يصم آذانه عنها وعن كل ما تتحدث به، وجدت نعامة نفسها في ديوان خالها تشكي له ما يفعله المفلوج بعقل زوجها وولدها، بدأ المختار في مجلسه يشن هجوما لاذعا على المفلوج ويشتمه بأقذع الألفاظ ويحيك حوله القصص والحكايا التي تتساقط اللقم من الأفواه إذا ما ذكرت، بدأ المفلوج يشعر أن الناس تبتعد عنه وتتجنبه، ينظرون إليه بخوف ويخشون أن يحدثوه خشية على دينهم فهو ساحر بلسانه، لكن المفلوج لا يبالي بكل ما يفعله خال نعامة ومجلسه، يجالس شباب الثانوية ويحدثهم بأفكاره ويؤثر فيهم حتى وصل الأمر بشيخ المسجد أن يهدده بالفضح على أعواد المنابر إن بقي ينشر الكفر والإلحاد كما يظنون.

زغاريد الحاجة نوفة كانت تعج جنبات الحارة، فقد عاد ولدها من إنجلترا يحمل شهادة الطب، المجلس لديهم محتشد بالمهنئين ولا حديث في مجلسهم إلا ما يقوله المفلوج وما ينشره من أفكار بين شباب القرية، الدكتور الشاب يفهم ما يتحدثون عنه ويدرك أن هذا النوع من العلمانية اليسارية يصادم معتقدات الناس وأفكارهم وأن العلمانيين يفشلون عندما يصادمون معتقدات الناس وموروثهم، بينما الجميع يتحدث وإذ بالمفلوج يدخل مع والده يهنئون الطبيب، برهة قليلة حتى كاد والد المفلوج أن يشتبك بالأيادي مع المختار الذي يلوكهم بلسانه ويتحدث عن ابنه ما ليس فيه ويقذفه بشرفه وعرضه، حدثت جلبة استطاع الطبيب أن يهدئ الجميع ويحافظ على هدوء المجلس، رحب الطبيب بالمفلوج أجمل الترحيب وناداه بأحب الأسماء إليه "الأستاذ أحمد"، شعر المفلوج أن هناك من يفهمه وأن الطبيب القادم من بلاد الغرب سيكون عونا له لا عليه.

بدا الطبيب وكأنه به مسحة من تدين وما أن أذن العشاء حتى طلب من الجميع أن يجهزوا أنفسهم لصلاة العشاء وبعد الصلاة يتناولوا طعامهم تهللت أسارير الشيخ والمختار لهذا المتعلم المؤمن وبعد الصلاة والطعام شكر الطبيب للجميع حضورهم وتلبيتهم لدعوة العشاء وأثنى على الأستاذ أحمد كما يحب أن يناديه الناس، وأثنى وعلى وعيه وثقافته وأظهر ما يعرفه عن العلمانية ومذاهبها وأسرارها، تفتحت عيون الشيخ وكادت حباتها تخرج من محاجرها وهو ينتظر من هذا الطبيب أن يكشف المفلوج وترهاته.

أخذ الطبيب يسهب في الكلام ويحدث الناس عن العلمانيات وأنواعها فهناك علمانية مستبدة كبعض العلمانيات العربية وعلمانية ديمقراطية كالعلمانيات الغربية، وهناك علمانية مؤمنة كالعلمانية الماليزية وعلمانية محايدة اتجاه الدين مثل العلمانية الأمريكية الإنجليزية وعلمانية ملحدة مثل العلمانية الروسية، وأن العلمانية هي الفصل ما بين رجل الدين والدولة وليس فصل بين الدين والدولة، وأن الديمقراطية نقيض للاستبداد لا نقيض للدين، وأن الدين لا يمكن أن يفصل عن الدولة لأنه جزء من الإنسان والإنسان أهم ركن من أركان الدولة، وأنه لا حقيقة لما يشاع أن العلماني ينكح محارمه فبعض الشعوب المحكومة بالأنظمة العلمانية تتشدد حتى في زواج الأقارب ويرفضونه ويعتبرونه زنا محارم كما يعتقدون، وأن الشخص لا يمكنه أن يكون علمانيا وأن الدولة هي التي تكون علمانية، وأن مشكلة العلمانيين العرب أنهم إذا آمنوا بفكرة أفسدوها ويظنون أن العلمانية ضد الدين، والحقيقة يمكن للدولة العلمانية أن تكون دولة متدينة مؤمنة، ويظن العلمانيون العرب أن الحرية هي حرية ما بين الفخذين، والحرية مفهوم أهم وأشمل ورأس أمرها الحرية السياسية قبل الحرية الشخصية.

شعر المختار أن رأسه يؤلمه ولا يستطيع أن يفهم كل ما يقوله الطبيب، في ذات الوقت كان المفلوج يتململ من كلام الطبيب ومحاولة تقريبه ما بين الدولة والدين، نهض الشيخ مغاضبا من الكلام المحايد اتجاه المفلوج وأفكاره وهو يردد: شباب اليوم جاءوا ليهدموا معتقدات الآباء والأجداد التي آمنوا بها عبر قرون، وفي ظهيرة يوم الجمعة ارتقى الشيخ المنبر فكفر كل العلمانيات وجعل من العلمانية حربا على الله ورسوله وحذر الآباء من أن تتسرب الأفكار الموبوءة إلى بيوتهم وأولادهم، داعيا إياهم أن يتشبثوا بدينهم ودين أبائهم حتى يستعيدوا مجدهم الأول ويعودا سادة الدنيا كما كانوا من قبل.

خرج الطبيب من صلاة الجمعة فوجد المفلوج في بقالة والد دحمس ناصحا إياه ألا يهاجم الدين ولا أهل التدين فهو كمن يجدع أنفه بيده ويقطع ذراعه بكفه الأخرى، وأن يبحث عن أقصر الطرق التي ترتقي بحياة الناس ومعاشها فمعتقدات الناس ودينها قلاع اندحر على أسوارها كل من حاول هدمها، فهذه البلاد وهذه الشعوب لا يمكن لأي فكرة فيها أن تنجح إلاّ إذا كانت صديقة للدين ومعتقدات الناس.

دلالات
00:00:00