طبيب وأستاذ جامعي وناشط سياسي
الأردن وطن صامد لا تهزه الأوهام

لطالما كانت بعض الألسن أسرع من العقول، فتراها تسارع قبل الاطلاع الدقيق في توجيه اللوم للأردن، دولته وشعبه، متسائلة باستغراب لا يخلو من استهجان: "كيف استطاع هذا الوطن الصغير أن يستقر لمئة عام؟" وكأن الاستقرار في محيط مشتعل تهمة، وكأن الصمود وسط العواصف أمر غير طبيعي. ما يغيب عن هؤلاء وخصوصا من الإخوة العرب -مثقفين وإعلاميين لدينا عتب عليهم- هو أن الأردن لم يكن يوما متفرجا على قضايا أمته، بل كان دائما في قلب المعركة، مدافعا عن الحق العربي، وحاضنا لمن لجأ إليه، وسندا لمن استنجد به.
9 حقائق حول دور الأردن في التاريخ
الأردنيون أيها السادة وعلى امتداد تاريخهم، لم يخرجوا في مظاهرات غاضبة لأجل قضاياهم المحلية إلا قليلا، بل كانت انتفاضاتهم الكبرى دائما نصرة لقضايا الأمة، وشعورهم القومي ظل متقدا حيثما احتاجه المظلومون والمقهورون في العالم العربي. والنخبة الأردنية المثقفة، لعبت على الدوام دورا مؤثرا في تشكيل الحركات الفكرية والسياسية عبر العالم العربي، والكثير منهم وصل إلى القيادة في هذه التنظيمات العابرة على مدى طيفها الفكري والأيدولوجي، ثم يعودون طول المسير إلى حضن وطنهم الدافئ.
حين نضع الأمور في نصابها الصحيح، نجد أن التاريخ الأردني مليء بالمواقف التي أثبتت صلابة الدولة الأردنية في الدفاع عن القضايا القومية، ورفضها لأي إملاءات تمس السيادة الوطنية. ونحن لا نصادر حق أحد في تقييم المواقف، لكن هناك حقائق تاريخية يجب أن تبقى حاضرة في كل نقاش حتى لا يظلم الوطن، ولا يجلد الأردنيون تحت وطأة دعايات ظالمة بثت ضده على مدى العقود.
1. حماية الضفة الغربية في حرب 1948
في معارك بطولية مثل باب الواد واللطرون، وقف الجيش العربي الأردني حاجزا أمام زحف الاحتلال نحو القدس، واستطاع الحفاظ على المدينة الشرقية والمسجد الأقصى تحت السيادة العربية حتى عام 1967، في وقت سقطت فيه بقية الأراضي الفلسطينية بسهولة نسبية.
2. الصمود في حرب 1967 رغم انعدام الغطاء الجوي
في مواجهة غير متكافئة، قاتل الجيش الأردني ببسالة في القدس والضفة الغربية، وقدمت "الكتيبة 40" تضحيات جسيمة، ولم يسقط جندي أردني إلا وهو يقاتل حتى الرمق الأخير، رغم التفوق الجوي الإسرائيلي.
3. معركة الكرامة 1968.. أول انتصار عربي بعد النكسة
"لا يبيت جندي إسرائيلي شرق النهر!" هذا ما أقسم عليه الأردنيون، فدحرت القوات الأردنية الاحتلال -وشارك في ذلك الفدائيون الفلسطينيون- وألحقوا به خسائر فادحة في معركة اعترف العدو قبل الصديق بأنها كانت هزيمة لجيشه المدجج بالسلاح أمام إرادة لا تكسر.
4. الجيش الأردني يحمي دمشق في حرب 1973
بشهادة الضباط السوريين، كان اللواء المدرع 40 أحد الأسباب الرئيسية في صد تقدم القوات الإسرائيلية نحو دمشق، في الجبهة الجنوبية للحرب، مما أنقذ العاصمة السورية من مصير محتوم.
5. رفض الأردن المشاركة في حرب الخليج الثانية 1991
رغم الضغوط الدولية والعربية، رفض الأردن المشاركة في حرب حفر الباطن، ورفض أن يكون جزءا من العدوان الثلاثي على العراق، انطلاقا من موقف قومي ثابت يرفض ضرب أي دولة عربية.
6. دور الأردن في إطلاق سراح قادة المقاومة الفلسطينية
كان للوساطة الأردنية الدور الأكبر في إطلاق سراح موسى أبو مرزوق من السجون الأمريكية، حيث استُقبل في القصر الملكي الأردني مع عائلته. كما أن الأردن، بعد محاولة الموساد اغتيال خالد مشعل في عمان، فرض شروطه على الاحتلال، وأجبره على تقديم الترياق المضاد للسم، وإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، في مشهد اعتبره الإسرائيليون إذلالا سياسيا لهم.
7. دعم الثورة الجزائرية
الأردن كان من أوائل الدول التي سحبت اعترافها بالحكومة الفرنسية في الجزائر، وساند الثورة بالسلاح والدعم السياسي، وكانت العلاقة بين الأردن وجبهة التحرير الجزائرية قوية جدا، تعكس إيمان المملكة العميق بحرية الشعوب العربية.
8. رعاية الوحدة اليمنية في 1990
احتضنت عمان محادثات الوحدة بين الشمال والجنوب اليمني، وكان للأردن دور بارز في دعم الاتفاق التاريخي، ساعيا لأن يكون اليمن موحدا ومستقرا.
9. الموقف الثابت تجاه العراق
وقف الأردن مع العراق خلال حربه ضد إيران، معتبرا أن سقوط بغداد في يد المشروع الصفوي الإيراني خطر على الأمن القومي العربي. كما رفض الأردن حصار العراق بعد 1991، واستمر في تقديم الدعم اللوجستي والاقتصادي رغم العقوبات الدولية.
لماذا يجب أن تبقى هذه الحقائق حاضرة؟
لأن التاريخ لا يكتب بالشعارات الجوفاء، بل بالمواقف الشريفة والتضحيات الحقيقية. وحين نقف خلف الدولة الأردنية وقيادتها الرسمية والشعبية في حمل رسالتها القومية، فإننا نفعل ذلك استنادا إلى هذا الإرث الأردني، رغم أنا لم نكن يوما دولة غنية بالموارد، لكن تاريخنا كان دائما غنيا بالمواقف، ثابتا في انتمائه، لا يغير هويته، ولا يخون أمته، ولا يتاجر بدماء شعوبها. ورغم قلة إمكانياته، بقي صلبا، ولم يساوم على قضايا العرب، ولم يبع في المزادات السياسية.
فإن كان الأردنيون يريدون لوطنهم أن يبقى حصنا للأمة، ونواة لمشروعها الكبير الجامع، فليكن الحديث عنه حديثا يليق بتاريخه.. حديث شرف لا تشكيك، وفخر لا جلد للذات.