كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
لماذا تفشل الأمم؟
بقم: غيث القضاة
لماذا تفشل الأمم؟ في هذا الكتاب المهم لمؤلفيه جيمس روبنسون "أستاذ علم السياسة في جامعة هارفرد" ودارون أغلو "أستاذ علم الاقتصاد في جامعة MIT" يأخذنا المؤلفان في رحلة فكرية إلى العديد من دول العالم الناجحة والمزدهرة وكذا إلى دول العالم الفقيرة والبائسة والفاشلة، لنكتشف سرًا ورابطًا عجيبا بين كل تلك الدول! حيث يطرح الكتاب نظرية جديدة تُجيب على السؤال الذي يحمل عنوان الكتاب: لماذا تفشل الأمم (Why Nations Fail)؟ حيث تم تقديم نظرية جديدة في هذا الكتاب تخالف معظم النظريات القديمة التي كانت تُحدد أسباب فشل الأمم والشعوب وتخلّفها.
الازدهار مقرون بالنموذج السياسي والاقتصادي الفاعل
النتيجة الأساسية التي خلص لها الكتاب تقول بأن الدول التي تمتلك نموذجا سياسيا تعدديا حُرا وانتخابات نزيهة ونموذجا ديمقراطيا يتم فيه تداول السلطة ويتم فيه الرقابة على عمل الحكومات، وتمتلك كذلك مؤسسات اقتصادية فاعلة ونظام إدارة متقدم، فإن هذه الدول تنجو وتصبح دولا مزدهرة ومتقدمة، بينما تلك الدول التي يسودها نظام استبدادي في السياسة والاقتصاد والإدارة، والتي يستبد بالثروة فيها فئة قليلة من المتنفذين الذين يجعلون مصالح البلد وثرواتها لخدمة مصالحهم ونزواتهم، تصبح بلا شك دولا فاشلة، سرعان ما تنهار ويسودها الفقر والحرمان والتخلف.
كانت معظم النظريات السائدة قبل صدور هذا الكتاب، تقول بأن جذور التخلف في الدول تعود لأسباب ثلاثة، وهي الموقع الجغرافي لتلك البلد وثقافة الشعوب والجهل، وكان الجميع يُلقي اللوم على هذه الأسباب الرئيسة الثلاث لفشل الأمم.
سقوط شمّاعة "جذور التخلّف"
لكن الكتاب تناول بطريقة ذكية ومشوقة أمثلة حقيقية من الواقع أسقطت جميع هذه النظريات، فالشعب الكوري من أكثر شعوب العالم تجانسا في الثقافة والموقع الجغرافي، وانقسم بعد الحرب العالمية الثانية إلى كوريتين، حيث تمت السيطرة على شمالي البلاد من حكومة شمولية لا تعرف إلا القائد الأوحد والزعيم المُمجد والحزب المتفرد، ساد فيها الظلم والتخلف والجهل والفقر والفساد، بينما تعتبر كوريا الجنوبية والتي نظامها جمهوري رئاسي وفيها أحزاب متعددة وجماعات ضغط سياسية متميزة، من أكبر المدن على مستوى الدول المتقدمة، وهي محور التكنولوجيا الرائدة في العالم، وتستقر فيها "Fortune Global 500" لخمسمئة من الشركات المتعددة الجنسيات، ولا يخفى علينا وجود الشركات العملاقة مثل "Samsung" التي تعتبر واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم، بالإضافة إلى "LG" و"هيونداي-كيا" فلماذا نجح وتقدم وازدهر هذا النصف وفشل النصف الآخر؟!
المثال الآخر المذكور في الكتاب هو مثال مدينة "نوغاليس" فنصفها يقع في المكسيك ونصفها الآخر في أمريكا، وبرغم الثقافة المشتركة بين الشعبين والجغرافيا الواحدة واللغة الواحدة التي تجمع سكان المنطقتين، إلا أن قسما يعاني من الفقر والحرمان والشقاء لأن دولتهم فاشلة على صعيد إدارة البشر والمؤسسات، وتجذر فيها الفساد واللصوصية، بينما القسم الآخر ينعم بالرفاه والحياة الرغيدة لأن دولتهم تتمتع بنظام إداري وسياسي متميز وحياة ديمقراطية معقولة وانتخابات حرة ونزيهة.
كيف ننزع عباءة الفقر والتراجع؟!
حتى تتغير الدول وتتقدم وتتخلص من الفقر والتراجع بحسب الكتاب فلا بد من تحقق أمرين في مسيرة الشعوب، وهما المنعطفات الحرجة "Critical Junctures" والتدمير الخلّاق "Creative Destruction".
المنعطفات الحرجة هي الأحداث التي تسبب هزة تقوم بإرباك النظام السياسي القائم وتجبره على التغيير أو ما نسميه "باللحظات التاريخية" وهو مثل مرض الطاعون أو الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر، وراح ضحيته أكثر من نصف سكان أوروبا، فتقلصت الأيدي العاملة حينها وأصبح العمال يطالبون بقوة بحقوقهم نتيجة الندرة التي حصلت، فتغيرت القوانين وتحسنت ظروفهم المعيشية بعدها.
أما التدمير الخلّاق، فهو الذي اعتمد على الاختراعات والتكنولوجيا في أوروبا، فعندما جاءت تكنولوجيا حياكة النسيج الآلية والثورة الصناعية وبدأت الابتكارات والاختراعات والتي أجبرت الدول حينها على صياغة نظام يكفل براءة الاختراعات لأصحابها، وهو الأمر الذي لا يحصل إلا في الدول التي تتمتع بمؤسسات ديمقراطية تحفظ حقوق الناس وحقوق الملكية الفكرية.
الإيمان بالإنسان والإدارة الناجحة باب النجاة
الدول في العالم أجمع ستنجو فقط اذا امتلكت مؤسسات سياسية قوية تؤمن بالإنسان وتحترم رأيه وفكره وتمارس الديمقراطية الحقيقية التي تجعله مسؤولا عن تصرفاته في نهاية المطاف ويستطيع من خلالها انتخاب حكوماته، وأن تمتلك كذلك مؤسسات إدارية ناجحة واقتصادية تعود بالنفع على الدولة وسكانها، لا على فئة محددة وخاصة، ولا يوجد بطبيعة الحال أي علاقة للموقع الجغرافي أو ثقافة الشعب بالتخلف أو التراجع أو الفقر، إنما هو الاستبداد والتسلط واحتكار السلطة الذي يؤدي إلى فشل الأمم.
بارقة أمل لنا في مخرجات اللجنة الملكية
"لماذا تفشل الأمم"، كتاب مليء بالدراسات السياسية واللفتات المذهلة والأمثلة الحية من واقع حياتنا والشعوب التي تحيط بنا، والتي تجعلك تقارن بين ما يقولونه في الكتاب بناء على أمثلة حقيقية وبين ما نشاهده ونراه ونحس به في عالمنا العربي.
ختاما يحدوني أمل بسيط في مخرجات اللجنة الملكية لتطوير المنظومة السياسية، والتي خرجت بتوصيات أسأل الله أن ترى النور في مجلس النواب وأن يتم الموافقة عليها وتفعيلها، لعلها تكون حجر الأساس الأول في مسيرة الديمقراطية بعد كل هذه الأعوام والعقود التي أرهقتنا من التراجع والخيبات، ولعلها تجعلنا نشهد بعد سنوات ميلاد حكومات أردنية حزبية تُمثل نبض المجتمع وتمارس الرقابة وتحارب الفساد وتنهض بالوطن.