مختص في البناء وإدارة المشاريع
التنافسية.. خيرٌ لا بد منه
بالرغم من التحديات الكبيرة والتخبطات التي تواجهها مجتمعات الدول المتقدمة في مسيرتها الحضارية، ولكننا لا نستطيع أن ننكر النجاح الكبير الذي حققته تلك المجتمعات في بناء منظومات قيمية منتجة من خلال استقطاب الكفاءات وتحفيزها ودفعها لتقديم أفضل ما لديها للوصول إلى ما وصلوا إليه من تقدم على المستوى المادي و المعرفي.
بيد أن هذا الإنجاز لم يتم في يوم وليلة ولم يحدث بـ "جرة قلم" كما يحلو لنا أن نتخيل,، بل جاء حصيلة جهود متواصلة وتجارب مريرة يغلب عليها طابع التمحيص والمراجعة وتشجيع المنافسة لكي يتقدم "الأصلح للمنظومة" و "الأحسن للجميع" على حساب "الأقرب لي" و "الأنفع لي" وذلك من خلال اتباع إجراءات كثيرة يلمسها من عاش وعمل في بلاد الغرب، نحاول أن نلقي الضوء على أهمها فيما يلي:
- العدالة في توزيع الفرص، عن طريق تنظيم آلية التنافس للحصول على الوظيفة على أساس الصلاحية والكفاءة وليس العرق ولا الجنس أو المحسوبية، و هذا لا يتم برفع الشعارات الرنانة عن العدالة وإنما من خلال جهد كبير في كل المجالات بالإضافة إلى تحميل الفريق لمسؤولية الاختيار، فانتقاء الموظف الخطأ ولو كان أخوك أو ابن عمك سيؤثر على أداء الفريق وإنتاجيته، وبالتالي على دخلك وسمعتك وسجلك الوظيفي، بمعنى أنك ستتكلف مئات بل آلاف الدنانير مقابل استمتاعك وتفاخرك برؤية ابن عمك الكسلان وهو يتمطى و يتثاءب في أروقة المؤسسة التي تعمل بها، لن يكون في مصلحتك أبداً أن يكون قريبك مديرا للعمل وهو يقود شركتكم أو مؤسستكم نحو الفشل و الخسارة.
- تحديد مهام كل منصب وظيفي وموقع إداري مع وضع مؤشرات رقمية لإنتاجيته و كفاءته "ما يطلق عليها KPI أو مؤشرات الأداء الرئيسية" وابتكار طرق الاختبار لمتابعة أداء الموظف وتقييم عمله ومن ثم وضعه في سلم التنافس مع باقي الموظفين بشفافية و عدالة، هذه العملية تحفز العاملين على التنافس والتدافع المتحضر وتزيل عنهم عقدة "الأنا" التي نعاني منها في مجتمعاتنا حيث يرى كل واحد منا نفسه طاغوتاً لا يجوز انتقاده أو مساواته بالآخرين.
- ايجاد بيئة العمل المناسبة والواعدة التي تدفع الإنسان للعمل والإنتاج من خلال تقديم الحوافز المادية والمعنوية وتنظيم برنامج العمل بشكل كفوء ومرن يوفر للعاملين حرية تخطيط حياتهم بشكل عملي واقتصادي متوازن بين مسؤوليات العائلة ومتطلبات العمل.
- توجيه التربية والتعليم نحو غرس قيم العدالة والتجرد والأمانة في التعامل والتركيز في مفهوم العفة والمواطنة الصالحة على أساس هذه القيم وليس غيرها.
- تسخير التكنولوجيا الحديثة والثورة الرقمية لأتمتة عمليات التقييم والتحكيم في كل مجالات العمل، فليس غريبا علينا التأثير الإيجابي للتغذية الراجعة التي توفرها تطبيقات الخدمات الذكية من تطوير لتلك الخدمات وضبط لمستوى مقدميها.
التنافسية محرك أساس لتطوير الإنتاجية
كل هذه الإجراءات وغيرها يجعل من التنافس محركاً أساسياً لتطوير الإنتاجية والارتقاء بالخدمات في أي مجتمع، علماً بأن التنافس لا يشمل القطاع العام فقط، بل إن القطاع الخاص يحتاج هذا التوجه بشكل أكبر لكي يحرر طاقاته و يكون الدافع الأكبر لنهضة البلاد.
تصوروا معي لو كان هناك نظام محكم لتقييم أداء المؤسسات بين بعضها البعض كالبلديات والمستشفيات ومقدمي خدمات الاتصالات أو تقييم للمباني التي تنشؤها شركات الإسكان على غرار الفنادق "نجمة، نجمتان، خمس نجوم".. ألم يكن هذا النظام دافعاً للتنافس على تحسين الخدمات و الارتقاء بمستوى الإنتاج وبنفس الوقت عاملاً مساعداً للمواطنين الذين يتلقون الخدمة في تحديد توقعاتهم و تسهيل اتخاذهم للقرار بدل الارتباك والحيرة التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى العزوف عن قرار شراء الخدمة لأننا لا نعرف ما هو الأفضل وما هو الأنسب لنا، بل نعتمد في قراراتنا على أقاويل وشائعات تكون في الأغلب بعيدة عن صلب الواقع.
وهنا يأتي السؤال: لماذا نتجنب خوض غمار التنافس الشريف ونعارض كل الدعوات باتجاهه.. رغم إدراكنا لأهميته وفائدته المباشرة وغير المباشرة على حياتنا؟!
والجواب على ذلك:
- أولاً: التنافسية تحتاج إلى جهد وتحضير ومتابعة حثيثة وعمل دؤوب لم نتعود عليه في بلداننا.
- ثانياً: التنافس يفضح عيوبنا وكسلنا وضعف أدائنا ويحيد أدواتنا الحالية التي نعتمد عليها في تسلق المناصب والدرجات الوظيفية.
- ثالثاً: أغلبنا لا يستطيع أن يتقبل المفاهيم التي تؤطر العمل التنافسي فعقولنا لا تزال محكومة بالعصبية القبلية والجهوية المقيتة.. وهذا يحتاج شجاعة لدى الكبار وتربية للصغار لنزع هذا الثوب العقيم عن ثقافتنا وتفكيرنا، فمن يدخل حلبة المنافسة يجب أن يُفرِّق بين التنافس والصراع، وأن يتقبل احتمال الخسارة دون أن يؤثر ذلك على علاقاته وأدائه في المستقبل، وبالمقابل، يجب أن تتولد لدى الإدارات ثقافة وآليات تساعدها على التعامل مع جميع الموظفين والعاملين بعدالة وحزم وشفافية ومهنية.
- رابعاً: الفرد في بيئة التنافس يلعب دوراً مزدوجاً فتارة يكون بين صفوف المتنافسين وتارةً أخرى يكون هو الحكم, فالطريق إلى التنافسية الشريفة يستوجب التزام المحكمين بالعفة والضمير الحي "تقوى الله" والتخلي عن نوازع العصبية القبلية والجهوية والأنانية لصالح دوافع الخير والعدل والإصلاح, وهذا ليس بالأمر البسيط في مجتمعاتنا التي تنتعش فيها ثقافة الأنا والقرابة على حساب العدالة والمساواة.
التنظير في هذا الأمر لا يأخذ سوى بضع سطور.. ولكن تحقيق المراد منه يحتاج إلى عمل دؤوب ومنظم وصعب في شتى المجالات.. هذا هو الجهاد الحقيقي الذي نحتاجه اليوم من أجل خيرٍ عميم ينتظر أهل العزائم والهمم العالية، جهاد حياة يصب في مصلحة الأمة وعزتها وصون كرامتها من أجل خيرٍ لا بد منه إذا أردنا أن نحيا بهامات مرفوعة وعزة وكرامة لنقابل البارئ الكريم بوجه أبيض!