تدين الخلاص الفردي وفرص النجاح

الصورة

بقلم: محمد العودات | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

آخر تحديث

حالة من الصراع الصفري بين الأنظمة والإسلام السياسي تولدت بعد الربيع العربي وبعد أن وجدت الأنظمة في الإسلام السياسي خطرا على شرعيتها، فانتقلت هذه العلاقة من مرحلة الاحتضان إلى مرحلة التعايش الحذِر أو مرحلة الخصومة والعداء، ووصلت في بعض البلدان العربية إلأى حالة متقدمة جدا من التجريف ومحاولة الإنهاء.

الأنظمة العربية تدرك أن قيمة التدين متعمقة ومتجذرة في نفوس الشباب فعمدت إلى محاولة صرف التدين من حالة الإسلام السياسي -الذي يوظف الدين ويحوله إلى وسيلة ومكتسبات للتنافس السياسي في الميدان- إلى حالة تدين الخلاص الفردي الذي يشبع الحاجة العميقة في نفوس الناس اتجاه الدين.

أظهر استطلاع الرأي الذي أجرته شبكة "البارومتر العربي" لصالح BBC أن هناك إقبالا كبيرا من الشباب العربي دون سن 30 على حالة التدين بخلاف نتائج الاستطلاع الذي أجرته ذات الشبكة في عام 2019، ويستثنى من هذه الحالة الشباب اللبناني الذي أصبح أقل تدينا وفقا لذات استطلاع الرأي.

الكثير من التحليلات التي تفسر هذا التحول لدى الشباب العربي من ضعف التدين إلى حالة التدين والتي تقول إن انغلاق الأفق السياسي وانتشار الفقر وقلة التنمية دفعت الشباب إلى أن يتعلق أملهم بالتدين وعالم الميتافيزيقيا، الذي يمكن أن يجدد لديهم الرغبة في إيجاد مخرج من الحالة القائمة، وبعض هذه التفسيرات ترى أن هذا التحول جاء نتيجة انحسار الإسلام السياسي والذي وجد الشباب أن التدين وإشباع نزعاتهم الروحية لا يكلفهم صراعا مع الجهات الرسمية العربية التي تدخل في خصومة صفرية مع الإسلام السياسي.. إلخ من التفسيرات والتحليلات التي قد تبدو متناقضة أحيانا.

أيّا تكن تلك التفسيرات فإن الثابت من استطلاع الرأي أن الشباب العربي أصبح أكثر تمسكا وميلا لحالة التدين بغض النظر عن شكل التدين وأسلوبه، إذ أوضح استطلاع البارومتر العربي ارتفاعا كبيرا في ممارسة الشباب العربي دون سن الثلاثين للشعائر الدينية كصلاة الفجر وقراءة القرآن والاستماع له، والمفارقة الغريبة أن الشباب اللبناني الذي ارتفعت لديه النسبة في وصف نفسه بغير المتدين ارتفعت أيضا لديه نسبة ممارسة الشعائر الدينية بالنسبة للفئة ممن وصفوا أنفسهم بأنهم متدينون.

البيئة الدينية ما بعد الربيع العربي قد تبدو الطريق معبدة فيها أمام الحركات الصوفية وتأثيرها في المجتمع في إشباع رغبة وفطرة التدين في ظل حالة من الخصومة والعداء ما بين حركات الإسلام السياسي بجميع ألوانها والأنظمة السياسية القائمة، وهي المقاربة التي تجد فيها الأنظمة القائمة الحالة المثالية لصرف حاجة التدين دون أن يتم استثمار الدين وتحويله إلى حركة سياسية تزاحم في الشأن العام.

من المؤكد أننا في العقد القادم سوف نشهد حالة احتضان ودعم من الأنظمة للحركات الدينية "حركات الخلاص الفردي" مثل الحركات الصوفية بجميع طرقها وتوصيفاتها وجماعة الدعوة والتبليغ، لمواجهة حركات الإسلام السياسي وسحب البساط من تحت أقدامه، كما شهدنا في منتصف القرن الماضي من احتضان الأنظمة لحركات الإسلام السياسي في مواجهة الحركات اليسارية الثورية، وسيتم أيضا تحييد دور العبادة عن أي ممارسة سياسية وبذات الوقت خنق وتضييق ناعم وخشن حسب البيئة لحركات الإسلام السياسي.

لكن مشكلة بعض الحركات الصوفية أنها تحمل في ذاتها مشاكل كبيرة من انتشار بعض الطقوس والمبالغات القريبة من حالة الشعوذة والخرافة، كما أن الحركات الصوفية حركات توصف بأنها المنطقة الرمادية ما بين الطائفة السنية والطائفة الشيعية، فهذه الحركات سنية العقيدة والفقه قريبة إلى حركات شيعية الطقوس والشعائر، مما يجعل بعض هذه الحركات غير قادرة على احتضان كل حالات التدين للشباب العربي وجذبه، كما أن جماعة الدعوة والتبليغ تبدو نظرتها الإصلاحية وفلسفتها قاصرة عن مواكبة الواقع مما يجعلها غير قادرة على ضم  حالات التدين وخصوصا لدى الطبقات الوسطى والمتعلمة.

لكن الأنظمة قد تجد سبيلها إلى الطبقات الوسطى في نشر حالة التدين غير السياسي من خلال تقديم رموز العمل الدعوي ومشاهير الخطاب الديني "المتمدن" كما حصل مع بعض الدعاة الأكثر انفتاحا والذين وصلوا إلى طبقات اجتماعية كانت عصية على كل الجماعات الإسلامية التقليدية وكانت تلك الشخصيات الدعوية قادرة على مواكبة اهتمام هذه الطبقات وهؤلاء الشباب وملامسة احتياجاتهم.

أيّا تكن الوسائل التي سوف تصرّف بها الأنظمة العربية القائمة حالة التدين المتدفقة في الشباب العربي، إلا أنه من المؤكد أننا مقبلون على دعم واحتضان وإطلاق يد إسلام الخلاص الفردي بكل تكويناته في مواجهة الإسلام السياسي بكل مكوناته.

لكن السؤال الذي سيبقى قائما، هل تستطيع جماعات وتيارات إسلام الخلاص الفردي بالدعم والتسهيل والاحتضان الرسمي أن تسحب البساط من تحت أقدام الإسلام السياسي؟ هذا الجواب يحتاج رصد سلوك حركات وجماعات إسلام الخلاص الفردي إذ ما كانت قادرة على أن تجدد وسائلها وخطابها وقدرتها على مواكبة حاجات الشباب وطرق تفكيرهم.

التجربة السورية التي كان يتزعمها الشيخ د محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله بعد أحداث الثمانينات بين الإخوان ونظام الأسد يمكن لها أن تنجح ويمكن تكرارها في كل البلدان العربية، ويبدو أننا مقبلون على ذات السيناريو حالة تدين شعائري عميقة وخلاص فردي بعيدا عن الإسلام السياسي في العقد القادم، وقد تنجح هذه الحالة وتتعمق أكثر إذا ما تم نشر الديمقراطية البرامجية الكاملة وتبهيت حالة الجمود الأيدولوجي العرقي والديني.

الأكثر قراءة
00:00:00