مدير عام قناة الجزيرة سابقا
نخلة الكريسماس.. جسر حماس مع الوطن وجسر مع العالم
قبل 30 عاما، في مثل هذه الليلة، أطل الدكتور عبد العزيز الدويك من مرج الزهور في لبنان على العالم، مهنئا بعيد الميلاد المجيد بالإنكليزية "ميري كريسماس". وسط تساقط الثلوج، وبلحيته وطاقيته الصوفية، بدا شبيها بسانتا كلوز، أكثر من كونه الناطق باللغة الإنكليزية باسم مبعدي حركة حماس في مرج الزهور.
كان القيادي في "حماس" والحاصل على الدكتوراه في الصيدلة من أمريكا، يبني من حيث أراد الصهاينة عزل "حماس" جسرا مع الغرب الذي تتجاهله الحركات الإسلامية، أو تعاديه، بالعادة. فوق ذلك، كان يبني جسرا مع المسيحيين من شعبه، الذين يساء لهم كل عيد: "هل يجوز تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد؟".
دع عنك ذلك، ودقق في النص القرآني، فقل أن تجد نصا يرسم صورة الميلاد بجمالها "قد جعلَ ربُّكِ تحْتَكِ سََرِيّاً (جدول ماء)، وهزّي إليك بِجِذْع النخلة تُساقِطْ عليك رُطَباً جنيّاً". الصورة ترسم مشهدا من الجنة، جدول ماء ورطب يتساقط عندما تضم مريم النخلة وتهزها.
في كتاب مصطفى أكيول "يسوع المسلم"، يقول:
"لعدة قرون، تساءل علماء الغرب من أين جاءت القصة القرآنية لمريم، وهي تلد تحت نخلة. يلقي الاكتشاف الأثري المزيد من الضوء على هذه المسألة الغريبة. في عام 1992، في أثناء توسيع الطريق بين القدس وبيت لحم، كشفت السلطات الإسرائيلية عن أنقاض كنيسة بيزنطية منسية منذ زمن طويل: كاتيسما والدة الإله، أو "كرسي حاملة الرب". هو لقب لمريم في المسيحية الشرقية، ولكن الأجيال السابقة، وفقا للعلماء، اعتقدت أن هذا هو المكان نفسه الذي ولد فيه يسوع، تماشيا مع وثيقة إنجيلية قديمة تصف نقطة الوسط بين القدس وبيت لحم، ومع "المكان البعيد" الموصوف في القرآن. علاوة على ذلك، كتب أحد الحجاج في العصور الوسطى عن الماء المقدس "الذي جاء من صخرة" في الكنيسة. كما عثر علماء الآثار على فسيفساء، وتصور إحداها، هذا، نخلة محملة بالتمر! ويعتقد ستيفن ج. شوميكر، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة أوريغون، أن "هذا يكاد يكون من المؤكد أنه تمثيل لنخلة التمر التي تغذت منها مريم العذراء بأعجوبة".
باختصار، "حماس" أولى بالمسيح ابن الناصرة، والنخلة هي شجرة الكريسماس التاريخية. تبني "حماس" جسرين في "ميري كريسماس":
-
الأول -والأهم- هو مع شعبها الذي دفع المسيحيون فيه الفاتورة الأعلى في مواجهة المشروع الصهيوني.
-
الثاني جسر مع العالم الغربي المسيحي الذي وقف معنا، وامتلأت شوارعه بالمتظاهرين دفاعا عن قضيتنا. ومن المهم إبعاد المسيحي في الغرب عن الصهيونية التي اخترقته، خصوصا في أمريكا.
عدد المسيحيين في غزة 2.550 نسمة عام 1931
لا يدري الغرب عن حرب الإبادة الحقيقية التي تعرض لها المسيحي الفلسطيني، وخصوصا في الحرب الراهنة، التي قتل فيها مسيحيون من القلة الباقية التي لا يصل عددها إلى ألف، وهو أقل من تعداد المسيحيين قبل قرن. قتل قناص جيش العدوان الشهيدتين ناهد بولس أنطون وابنتها سمر أنطون أمام كنيسة اللاتين في غزة، لم تثر الجريمة تعاطف الغرب معهما وحزنه عليهما، فهو يتعامل مع الفلسطيني بوصفه مسلما آخر ينتمي للبرابرة.
وفقا لتعداد عام 1931، بلغ عدد المسيحيين في غزة 2.550 نسمة، أي حوالي 11% من إجمالي سكان القطاع البالغ عددهم 23.110 نسمة، ما يكشف عن عملية تهجير منهجي بالغة القسوة. رسمت صحيفة فايننشال تايمز صورة مأساوية لحال مسيحيي غزة، لكنها صورة استشراقية بوصفهم "أقلية" لا لأنهم جزء من الأكثرية العربية، سكان البلاد الأصليين الذين هجرهم الاحتلال.
تكتب الصحيفة:
"ويتجمع المجتمع المسيحي الصغير في غزة في الكنائس للاختباء من الحرب، وبقي معظم مسيحيي القطاع فيه، ويتراوح عددهم بين 800 و1000، وجميعهم تقريبا يختبئون الآن في سانت بورفيريوس وكنيسة العائلة المقدسة القريبة، وهي جزء من آخر أبرشية كاثوليكية متبقية في مدينة غزة".
وقال رامي الطرزي، الذي كان يدير مركزا ثقافيا أرثوذكسيا قبل الحرب، والذي دمرته غارة جوية إسرائيلية:
"تستضيف هاتان الكنيستان 340 عائلة، أي ما يمثل جميع المسيحيين تقريبا في غزة".
فر حوالي 20 من عائلة الطرزي، وهي عشيرة كبيرة من المسيحيين الفلسطينيين، من منازلهم في مدينة غزة بحثا عن الأمان النسبي في القديس بورفيريوس، الذي سمي على اسم أسقف من القرن الخامس، كان أول من أنشأ كنيسة في الموقع لتحل محل معبد وثني.. دمرت غارة جوية إسرائيلية في 19 تشرين الأول أحد المباني التي تؤوي العائلات في مجمع القديس بورفيريوس، ما أسفر عن مقتل 17 شخصا، من بينهم أربعة من أقارب الطرزي، ودفنوا في أراضي الكنيسة. وقال رامز الذي فقد أطفاله الثلاثة، سهيل وجوليا ومجد: قتل عشرة أفراد من عائلة السوري في الغارة الجوية. وقال متري الراهب، القس اللوثري ورئيس ومؤسس جامعة دار الكلمة في بيت لحم، إن وجود المسيحيين في غزة "قديم قدم المسيحية"، وأضاف: "لقد ذُكرت غزة ثماني مرات في العهد الجديد".
بناء "حماس" الفكري والسياسي لم يتطور كبنائها العسكري والتنظيمي
حال المسيحيين خارج غزة ليس أفضل، في القدس قبل حرب عام 1967، كان يعيش في المدينة حوالي 24 ألف مسيحي. الآن، لا يوجد سوى تسعة آلاف فقط من أصل 540 ألف نسمة.
وهذه الأيام تخوض الطائفة الأرمنية "معركة وجودية" للحفاظ على جزء من أراضيها في المدينة القديمة. وتقول البطريركية الأرمنية إن صفقة الأرض مع مطور إسرائيلي "تضع الوجود الأرمني والوجود المسيحي في القدس في خطر". حتى الكاتب المشهود له، ديفيد إغناتيوس، وهو من أصول أرمنية، تجنب في مقاله في "واشنطن بوست" الحديث عن تدمير الصهاينة الوجود المسيحي في القدس، ومنه الأرمن، وعرض قضية الاستيلاء على أراضي الكنيسة الأرمنية وكأنها نزاع عقاري "داخل المدينة القديمة، قمت بزيارة مع متظاهرين شباب يحاولون منع بناء فندق فخم جديد داخل أسوار المدينة في الحي الأرمني، في موقف للسيارات وأرض مجاورة أجّرها البطريرك الأرمني لمطور إسرائيلي أسترالي. ومنذ ذلك الحين، قدم البطريرك أوراقا إلى السلطات الإسرائيلية لسحب موافقته على عقد الإيجار، لكن الجرافات حاولت تنفيذه رغم ذلك. وقد تم منعهم حتى الآن من خلال اعتصام للأرمن على مدار الساعة، كما أوضح زعيمهم هاغوب جيرنازيان.
هذه من المفروض جزء من معركة غزة وطوفان الأقصى. وبالنتيجة، تراجع عدد المسيحيين من حوالي ثمانية إلى 10% من سكان فلسطين أيام الانتداب في الأربعينيات إلى 2% فقط في الأراضي المحتلة و2.4% في الأراضي الفلسطينية اليوم.
لم يتطور بناء "حماس" الفكري والسياسي خلال ثلاثة عقود كما تطور بناؤها العسكري والتنظيمي. أذكر أن أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين وصف ميثاق "حماس" الذي كُتب في 1988 بأنه خطبة جمعة، ولم تتجرأ الحركة على المساس به، عندما أصدرت وثيقتها السياسية في 2017، مع أنها متقدمة كثيرا عليه. لا تحتاج "حماس" -وهي تقود المواجهة مع المشروع الصهيوني- إلى مجاملات فارغة، تحتاج مراجعات جادة، تنقلها من حركة مغلقة دينيا وسياسيا إلى حركة مفتوحة للشعب كله، مثل حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية.. أن تتحول مثل الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب، أحزاب تتبنى قيم المسيحية التي تلتقي مع القيم الإنسانية، ومنها الإسلام، وتعمل في السياسة على قاعدة العدالة والنزاهة والاستقامة وحب الخير والتعاون.
الرؤية الأيديولوجية المغلقة لعناصر الإخوان كانت ترى إقامة الدولة الإسلامية أهم من تحرير فلسطين
يدرك الإخوان المسلمون، وتحديدا في غزة أكثر من غيرهم، كيف فوتت الجماعة في الستينيات فرصة الانضمام إلى المشروع الوطني الفلسطيني، بسبب العقد الأيديولوجية، منهم ومن خصومهم، فشباب "الإخوان" في حينه، من ياسر عرفات إلى خليل الوزير (أبو جهاد) إلى أبو يوسف النجار، هاني وعلي الحسن، وفوقهم أبو مازن نفسه، رأوا في "الإخوان" حركة دعوية إسلامية غير قادرة على بناء مشروع تحرر وطني، فأسسوا حركة فتح لتضم كل فلسطيني راغب في حمل السلاح لتحرير وطنه، إسلاميا كان أم يساريا أم قوميا، مسيحيا أم مسلما، ولذلك ضمت حركة فتح قيادات إخوانية وقيادات بعثية، مثل فاروق القدومي، ويسارية شيوعية، مثل ماجد أبو شرار ومنير شفيق.
فوتت جماعة الإخوان، في ذلك الوقت، فرصة الانخراط في المشروع الوطني الفلسطيني لثلاثة أسباب:
-
ضعف الحضور الجماهيري للتيار الإسلامي في الستينيات لصالح المدّين القومي واليساري، لا بل تجريمه من جمال عبد الناصر، وهو الزعيم الذي لم ينازعه أحد على شعبيته.
-
الصراع الأيديولجي الذي حكم تلك المرحلة، فمثلا انشقت الجبهة الديمقراطية عن الشعبية، لأنها لم تكن ماركسية كفاية. كانت الرؤية الأيديولوجية المغلقة لدى عناصر "الإخوان المسلمين" أيضا ترى إقامة الدولة الإسلامية أهم من تحرير فلسطين، وأن الدولة الفلسطينية قادرة على تحرير فلسطين وليس العكس.
-
حرب أيلول (1970) بين الدولة الأردنية وفصائل منظمة التحرير، ظل "الإخوان" حريصين على البقاء في إطار الدولة وعدم العمل من خارجها.
إسلامية المقاومة لا تمحو الهوية العربية الجامعة لشعب فلسطين، ومشروع المقاومة يستدعي تحشيد العالم لصالح القضية
نظلم قادة المقاومة عندما نشغلهم بعمل فكري وهم منخرطون في عمل عسكري وتنظيمي أبهر العالم، وصعق العدو، والأدوات الفكرية والثقافية ليست متوافرة كفاية حتى عند القيادة السياسية، هذا جهد كبير ينخرط فيه مفكرون وباحثون، من أنصار الحركة، ومن منتقديها المؤمنين بمشروع المقاومة.
الدعوة الإسلامية فضاء مختلف عن مساحات العمل التنظيمي والسياسي والفكري، لكنه بالنسبة لحركة حماس وحزب الله وأنصار الله (الحوثيين) و"طالبان" أساسي يتقدم على الاعتبارات السياسية والفكرية، فالمسجد هو المحضن الأساسي للتعبئة والتجنيد والتكوين. في المقابل، تتعامل "حماس" في المساحة السياسية مع غير المسلم، والمسلم غير المتدين، ومع العالم كله، والوطن كله.
لم تكن جولة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، التي بدأها في القاهرة لصفقة التفاوض، بل كانت لطرح برنامج سياسي، يعتمد مرجعية الفصائل المقاومة وتشكيل حكومة تكنوقراط. بموازاة ذلك، لا بد من تجديد البناء الفكري والسياسي للحركة، حتى لا تضيع المكتسبات التاريخية لـ"طوفان الأقصى". ومن المهم أن تتعلم "حماس" من درس المقاومة العراقية التي هزمت أمريكا، لكن غياب البرنامج السياسي الوطني الجامع جيّر انتصارها لصالح مشروع إيران الطائفي.
تمكنت "حماس" من تحقيق ما كان غير مسبوق للقضية الفلسطينية على مستوى العالم، تجلى في الانتصار الكاسح في الفضاء الرقمي والانتشار الواسع في شوارع المدن الأوروبية والأمريكية في تظاهرات لا تتوقف. وتؤكد استطلاعات الرأي أن الحركة كسبت المعركة بمعزل عن جولات الصراع الدائرة حاليا. ويتطلب هذا الكسب الكبير جهدا أكبر من المفكرين والمثقفين والسياسيين لبناء مشروع سياسي قابل للحياة ومستعد لكل عناصر قوة المشروع الوطني الفلسطيني، وهذا ما تحمله جولة هنية التي تتضمن عناوين تشكيل حكومة تكنوقراط وبناء مرجعية من فصائل مقاومة، لكن هذا وحده غير كافٍ من دون خطاب يواجه الرواية الصهيونية التي تختصر الفلسطيني بالمسلم، وهذا يسهم في تحشيد الغرب "المسيحي" ومشاركته اليهودي في المعركة ضد المسلم، الذي تشوه صورته بالإرهابي والبربري، بقدر ما يفكك الهوية الفلسطينية طائفيا، فإسلامية المقاومة لا تمحو الهوية العربية الجامعة لشعب فلسطين، ومشروع المقاومة يستدعي تحشيد العالم لصالح القضية، بما فيه المسيحيون الذين تستهدف مقدساتهم كما مقدسات المسلمين. لا نرهق المقاومين الذين يسطرون أروع الملاحم بمشروع فكري، هذا واجبنا عليهم.