كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
شوالات الطفايلة
أن يجمع حي الطفايلة "الفقير" في العاصمة الأردنية عمان مبلغا ماليا قدره 125 ألف دينار من أجل إرسال 500 خيمة إلى النازحين في غزة، هو أكبر دليل على عمق وصدق المقولة التي أطلقها قبل عقود شاعر الأقصى يوسف العظم رحمه الله والتي قال فيها "كلنا أردنيون في حب الأردن وكلنا فلسطينيون في حب فلسطين"، وذلك مساهمة منهم في الحملة التي تم إطلاقها أمس عبر إذاعة حسنى بالتعاون مع نقابة المهندسين ونقابة المقاولين الأردنيين.
حي الطفايلة يقدم 125 ألف دينار في حملة غزة معا ننصرها
وهم أنفسهم الذين جمعوا قبل عدة أشهر 52 ألف دينار من الحي ذاته من أجل نصرة غزة في حملة "وقف ثريد" وأحضروها في "شوال" إلى مبنى الإذاعة في رمزية تدل على أن المبلغ قد تم جمعه بالقليل والكثير من التبرعات.
شوالات الطفايلة تحمل في طياتها رسائل عدة، فهي رد على كل ناعق بالسوء ذاك الذي يريد أن يفرق بين شعبين لصيقين يشتركان في المصير واللغة والدين والثقافة، وكذلك لصيقين من حيث الإيمان بالمقاومة التي تقف في وجه آلة الغطرسة الصهيونية، وهي دليل على تلك الروح الممتلئة بالمروءة والرجولة التي تسري في عروق أبناء هذا الحي العريق في عمان، الغني بغنى نفوس أهله، الثري بنخوة أبنائه وسكانه، فليس المال هو الذي يرفع من قيمة الإنسان بل هو الشرف والرفعة والنخوة والشعور مع الأخ الجريح أو الشهيد أو المصاب وهي الصفات التي يمتلكها أبناء هذا الحي بلا شك، فقد مات أقوام وما ماتت محاسنهم، وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ.
لا تعارض بين حب الأردن وحب فلسطين
وهي دليل أيضا على قدرة فريق شبابي وطني أصيل من حي الطفايلة الذي يحب الأردن ويخشى عليه ويؤمن بوطنه واستقراره، أولئك الذين جعلوا القضية الفلسطينية من أولى أولوياتهم، فلا تعارض عندهم بين حب الأردن وحب فلسطين، ولا تعارض عندهم بين العمل للأردن والعمل لفلسطين، ففي الوقت الذي يشاهدون فيها الدماء والأشلاء المتناثرة لإخوانهم في الدم والمصير الذين يبذلون الغالي والرخيص والنفس والنفيس من أجل محاربة آلة الغطرسة الصهيونية، قدموا ما جادت به أنفسهم من الأموال وكأنهم يقولون لا عشنا إن لم يعش إخواننا في فلسطين وغزة عيشة كريمة، ولا كانت حياة تلك التي ننعم بها دون أن نشعر مع إخواننا المستضعفين فنحاول جهدنا ما استطعنا، فجمعوا من هذا الحي الراقي بأخلاق أهله الكبير بهمة أهله ما يعجز عنه الكثير، فكم من درهم سبق ألف درهم.
شوالات حي الطفايلة تذكرنا بقصص التاريخ
شوالات حي الطفايلة ينبغي أن لا ننساها من ذاكرتنا الوطنية وأن نعلمها لأبنائنا، وهي تذكرنا بتلك القصص التي كنا نقرأ عنها في التاريخ؛ كقصة المرأة التي لم تجد غير أن تقص ضفائر شعرها لتجعلها قيدا للخيل الغازية في سبيل الله، حيث ذكرتها كتب التاريخ وخلدتها في هذه القصة الرمزية وذلك بعد أن سبى الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر منطقة الرقة وفيها هارون الرشيد، فإذا خرقة مصرورة بجانبها كتاب مضموم إليها مكتوب فيه:
"إني امرأة من بيوتات العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وبلغني تحريضك على الغزو، فعمدت إلى أكرم شيء في بدني علي، وهما ذؤابتاي، فجززتهما وصررتهما في هذه الصرة المختومة، فأنشدك بالله العظيم لمّا جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله، فعَلَّ الله ينظر إلي نظرة على تلك الحال فيرحمني".
فبلغ ذلك الرشيد فبكى، ونادى النفير في سبيل الله، وما أشبه اليوم بالأمس غير أننا لا نستطيع سوى بعض الجهاد بالمال وهي حيلة المُقل العاجز.
هنيئا لكم يا أبناء حي الطفايلة بهؤلاء الشباب الذين وجهوا الجميع لعمل الخير في منطقتهم وحيّهم وقدموا نموذجا اتبعته العديد من التجمعات العشائرية، فكان لهم أجر السبق في ذلك، ولعل الله ينظر إلينا جميعا ويرحمنا بهذا التعاطف وبهذه المشاعر الممزوجة بالدموع والدعاء والأحاسيس الرقيقة التي لا نمتلك غيرها.
وقد سرني أنهم قد حولوا مبادرتهم إلى مبادرة مُرخصة قانونية لضمان بقائها واستمرارها، ولا بد لجميع الجهات حينها دعمهم وتقديم السند لهم؛ فهم يعملون تحت ضوء الشمس وفي العلن وتحت مظلة القانون وبحسب التعليمات الإدارية، فلا أقل من دعمهم وتثبيتهم وتشجيعهم وعدم تعطيل مشروعهم الذي يمتلئ خيرا وبركة، بل وتشجيع شباب المبادرة وتكريمهم وعدم التضييق عليهم فهم كرامٌ أبناء كرام ينبغي أن نفاخر بهم.
شوالات الطفايلة يجب أن تدخل التاريخ السياسي الأردني كذلك كشاهد حقيقي على الوحدة العميقة ووحدة الدم والمصير والهدف بين الأردن وفلسطين، وكشاهد على قدرتنا جميعا على تجاوز ذكريات قديمة أليمة قد محاها التاريخ ومحت أثرها الأفعال العظيمة من العظماء كهذه الأفعال التي يقدمها أبناء حي الطفايلة وستبقى شوالاتهم في ذاكرتنا، نقذفها في وجه من أراد بنا شرا أو أراد أن يذكرنا يوما بماض قد انحسر وغاب شره وأثره وبدلناه بأفعال عظيمة ونماذج أخلاقية عالية.
تحية مرة أخرى لشباب حي الطفايلة الذين يزرعون فينا الأمل ويذكروننا بأن الخير موجود ومعهود ومعقود بنواصي الخيّرين الذين تسري في عروقهم النخوة والشهامة، وحفظ الله الأردن وجعله عزيزا بعزة أبنائه، وحفظ الله المقاومة في فلسطين وشد الله من أزرها وجعلهم من المنصورين.