أكاديمي وصحفي مختص في الترجمة واللغات والأدب
سطوة المال وبشرية العمال
لمحة من التاريخ: تنتصر القيم أم تنتصر الأرقام؟
هل ساد المسلمون 70% من الدولة الرومانية خلال 15 سنة و100% من الإمبراطورية الفارسية، بموازين قوة مجردة؟
هل كانت السنوات الـ15 كفيلة بتحقيق مثل تلك التغيرات الكونية على يد أناس من العرب يملك خصومهم كل موازين القوة والذاكرة القتالية، بينما العرب ليس لهم من تاريخ القتال إلا الاقتتالات الداخلية كداحس والغبراء؟
هل أعداد العرب كانت أكبر وكانت كفيلة بترجيح كفتهم على الإمبراطوريات الأخرى؟ أم كان عتادهم مهولا وشفع لهم بالنصر المؤزر؟ أم أن هناك عنصرا آخر في المعادلة غير موازين النصر الظاهرة ورجح الكفة لصالح المسلمين؟
مرجعيات فلسفية
هل كافأ الله الناس على الإيمان المطلق أم على مطلق الإيمان؟ هل يكافئ الربُّ عبدَه على الإنجاز الكامل أم على مطلق الإنجاز أم على بذل الوسع؟
وهل مَن خلق الإنسان وضع أسس التعامل معه، أم تركه سدى؟
هذه المرجعيات ليست ترفا فكريا، بل تمتد إلى العلاقة بين المالك والمدير والموظف، فتحدد طبيعة فهمنا للثواب والعقاب ضمن الحياة العملية والأماكن الوظيفية.
المفارقة الغربية: الفلاح والنجاح في ميزان الترجمة
بادئ ذي بدء: لا مناص لنا من الالتصاق بالتحليل الغربي للنظرة الدنيوية للنجاح والإنجاز كي نلمس المفارقة بأيدينا، ونتلمس مواطن تسلل الأفكار إلينا. فلو أننا زرنا معاجم الإنجليزية كأكسفورد وميريام ويبستر وسألناهما عن تعريف مصطلحات مثل: Victory, Win, Success لتبين لدينا أن ترجماتها ستصدر كالتالي:
الفوز والنصر والانتصار والغلبة وكلها تحصر بالحياة الدنيا من جميع الجهات، مما جعل الليبرالية المتوحشة تتمركز في حياتنا ومؤسساتنا وأنظمتنا الداخلية بتعسف منقطع النظير، بل وتبرر التجني لكل مسؤول مأزوم، وتطلق يده على كل من لا يسبح بحمد عطوفته وسماحته ونيافته ليسومه سوء العذاب النفسي والمالي والأخلاقي!
وإن دل ذلك فإنما يدل صراحة على غفلة الحضارة الغربية عن الماورائيات الشرعية لدى المسلمين، وليس أدل على ذلك من غياب ترجمة ثقافية إنجليزية دقيقة لكلمة الفلاح كما يقصدها ويعيشوها الناطقون بالعربية؛ فالفلاح في الثقافة العربية يتجاوز الحياة الدنيا إلى ما بعدها؛ إلى الجزاء يوم الدين، كما ورد في لسان العرب لابن منظور والمعجم الوسيط. وهو الأمر الذي لا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بوجوده بين البشر، وهو أن يقدم المرء شيئا بلا مقابل يرجى إلا من الله، كما يسمى اليوم عملا خيريا ولا يبتغي العبد الجزاء إلا من الله تعالى: "وما لأحد عنده من نعمة تُجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى". سورة الليل
الفطرة والدرجات: رحمة لا إهلاكا
لو أننا نظرنا إلى ما عامل به رب العزة عباده، لرأينا تقسيما بديعا اصطفى بنعمه سبحانه أقساما من البشر:
ظالما لنفسه، ومقتصدا، وسابقا بالخيرات. فانظر كيف يرشدنا رب العزة إلى أن ثمة مجالا للاصطفاء لمن ظلم نفسه، ومجالا آخر للمقتصد، وليس فقط للسابق بالخيرات؛ ومن هنا تظهر حكمة أن الجنة درجات، والنار دركات.
ومثال آخر يبين لنا كيف أن من خلط عملا صالحا وذنوبا فإن مصيره العفو لا الإهلاك؛ قال تعالى:
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ وقال ابن عباس: "عسى من الله واجبة"؛ أي أن توبة الله لعباده المعترفين والمنيبين محققة واقعة، كما أورد الطبري والقرطبي، بتصرف.
ومعنى ذلك أنك لو عصيت ملك الملوك، المحيي المميت، القادر القاهر، ثم تبت إليه معترفا بفضله وتقصيرك، فسوف يتوب عليك. فقل لي بربك يا صاحب العمل كيف تتجنى على من ألجأهم السعي على الرزق بتكليفهم ما لا يطيقون وحسابهم بالعسير على ما لا يقصدون!
القوانين: أدوات الأقوياء وسلاسل الضعفاء
جاء في الجزء الثاني من فيلم العرّاب (1974) فقرة بليغة:
"إن كنتَ تحمل مسدسًا وأنا أحمل مسدسًا نستطيع التحدث حول القانون!
وإن كنتَ تحمل سكينًا وأحمل سكينًا نستطيع التحدث عن القواعد!
وإن أتينا بيدين فارغتين فنستطيع الحديث عن المنطق!
أما إن كنتَ تحمل مسدسًا وأنا أحمل سكينًا فالحق معك!
وإن كنتَ تحمل مسدسًا وأنا خالي اليدين فأنت لا تحمل سلاحًا في يدك، بل تحمل حياتي!
مفاهيم القانون والقواعد والأخلاق لا تحمل معنى إلا حين تقوم على المساواة!
فالحقيقة المرة في هذا العالم: عندما يتحدّث المالُ تسكت الحقيقة، وعندما تتحدّث السلطة يتراجع المال خطوات إلى الوراء.
القوانين أدواتُ الأقوياء وسلاسلُ الضعفاء." بتصرف
ختاما..
يا عابدَ القبرِ أحفاكَ السجودُ له
والقبرُ يأتيكَ في يومٍ له أجَلُ
كم من مريضٍ تمنى الموتَ ينقذُه
فجاءه الدهرُ في طولٍ له مَلَلُ
لِمثلِ هذا فإن الجهلَ مقبرةٌ
والعلمُ يفضحُ مَن في عقلِه خَلَلُ