صلاحيات الملك

الصورة

منذ نشوء النظام البرلماني في العالم، فإن دساتير جميع الدول التي أخذت بالنظام البرلماني الملكي أو البرلماني الرئاسي أعطت الملك أو لرئيس الدولة مركزا متميزا وامتيازات تتناسب مع مكانته المحترمة.

وفي الدستور الأردني جسّدت النصوص الدستورية هذه المفاهيم وأعطت للملك رمزية عالية ووفرت له أقصى حدود التقدير والاحترام، وبرغم عدم ممارسة الملك للسُلطة بطريقة مباشرة إلا أن دوره يكون بالموافقة والتوقيع من أجل استكمال الشكل الدستوري لما يتم إصداره من مواد متعلقة بالقوانين والنُظم.

الملك مصون من كل تبعة ومسؤولية

والملك بحسب نصوص الدستور مصون من كل تبعة ومسؤولية وفق المادة 49 من الدستور، حتى لو أصدر أمرا شفويا أو مكتوبا لرئيس الوزراء أو أي وزير كان، فعلى هذا الوزير أن يُعلم الملك بعدم قدرته على تنفيذ الأمر إذا وجد فيه ما يخالف الدستور.

في عام 1955 صدرت الإرادة الملكية بحل مجلس النواب، وكانت تحمل فقط توقيع رئيس الوزراء وحده وفوقه توقيع الملك، فثارت شُبهة دستورية حول سلامة حل مجلس النواب لأنها لا تحمل توقيع الوزراء المختصين حينها، فعُرض الأمر على المجلس العالي لتفسير الدستور وأصدر قرارا واضحا بهذا الشأن، أكد فيه أن هنالك نصاً قانونياً يُجيز للملك حل مجلس النواب، إلا أن هذا النص يجب أن يُقرأ مع جميع المواد الدستورية المتعلقة به، التي تتطلب توقيع الوزراء المختصين ثم رئيس الوزراء ومن ثم يقوم الملك بالتوقيع فوق هذه التواقيع، وصدر القرار بأن الإرادة الملكية غير مستوفية لشروطها وتم اعتبارها غير نافذه في ذلك الحين، حيث أن الدستور يفقد قيمته وغاياته وأهدافه إذا لم تتكامل النصوص الدستورية فيما بينها كبناء متكامل عند الحديث عن مدلول النصوص الدستورية.

في خلفية المشهد السياسي الحديث، فإننا نتذكر بكل أسف أن جميع المجالس النيابية التي تم حلها قبل استكمال مدتها الدستورية، تم حلها دون ذكر سبب الحل خلافا للمادة 74 من الدستور، التي تشترط ذكر سبب الحل للمجلس، وهذا من أخطر الأمور التي يمكن أن تحدث في الدولة، فهو إجراء ينطوي عليه المساس بإرادة الشعب التي جاءت بهذا المجلس، لكن النظم الدستورية الحديثة والمُستقرة جعلت شروطا ونصوصا وضوابط تجعل من حل البرلمان أمرا يصعب القيام به، إلا في حالات خاصة ومحددة كما هو معمول به في الدستور البلجيكي والأسباني وحتى الدستور المغربي، لأن حل مجلس النواب يشكل عنصرا أساسيا في إدارة شؤون الدولة ويجب ضبط عدم العبث به بهذه السهولة، لكن بعض المسؤولين النافذين وبعض البطانة غير الجيدة والمتنفعة والمؤثرة، أرادوا أن يُرسخوا بأن الملك وحده هو صاحب القرار من أجل الحفاظ على بعض مكتسباتهم الأمر الذي أدى  بلا شك لاختلال المعايير وإضعاف مكانة ورمزية مجلس النواب.

تندّر الملك في بعض لقاءاته من بعض المسؤولين الذين يوهمون الناس أن جميع ما يفعلونه جاء بناء على "أوامر من فوق" حيث أصبح السائد لدى الناس والعديد من رؤساء الوزارات والوزراء والنخب الفكرية والمثقفين والسياسيين، بأن الملك هو صاحب السلطة المطلقة في معظم الأمور، وهذا بخلاف ما يريده الملك، وهو الذي ينتقده في جميع مقابلاته وبخلاف النصوص الدستورية، وقد أسمى الملك بعض هؤلاء "بالديناصورات" الذين لا يتغيّرون، ويسيئون إلى مسيرة الإصلاح في الأردن للحفاظ على مكتسباتهم وامتيازاتهم، وهم بكل أسف الذين قاموا بتجريف الحياة السياسية وتجريف الكفاءات الوطنية تحت ذريعة الولاء، فكانت هذه البطانة هي السوس الذي ينخر في جسد الدولة.

جوهر المشكلة التي نعاني منها في الأردن والمتعلقة بعملية الإصلاح هي تجاهل العديد ممن يرفضون أية تعديلات دستورية تدفع باتجاه تعزيز الحياة الديمقراطية لخطورة ما سيترتب على نهجهم من تبعات سياسية واقتصادية ومجتمعية في المستقبل، وتجاهلهم لقراءة التاريخ الذي أثبت بصفة قاطعة أن أساس ديمومة الملكيات الدستورية الموجودة في العالم واستمرارها حتى يومنا هذا، هو الحفاظ على توازن كامل بين السلطات الثلاث والفصل الكامل بينها، وليس خارج السياق أن يتم التذكير بأن الديمقراطيات الملكية في الدول العشر في أوروبا، ما زالت تتوارث الحكم عندما استجابت لمطالب شعوبها وفصلت بين المُلك والسُلطة لتقديم أفضل الخدمات لشعوبها.

لابد من الإشارة هنا كذلك إلى أن دساتير الدول الديمقراطية المعاصرة جعلت من المعارضة السياسية المتمثلة بالأحزاب أساسا حقيقيا لنقد مسار الدولة السياسي والاقتصادي وتطويره، فمهما بلغت كفاءة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية فلا بد من وجود مُعارضة منظمة على نحو مؤسسي على شكل أحزاب تراقب السلطات وتكشف أوجه الخلل وتطرح البديل، الذي تعتقد أنه سيكون مناسبا للمصلحة العامة؛ فيرتاح المواطن حينها ويطمئن بأن صوته في الانتخابات سوف يضبط إيقاع الدولة السياسي على نحو سليم.

نحن بأمس الحاجة إلى تعديلات دستورية تضمن الفصل الكامل بين السلطات، وتضمن أن الشعب هو صاحب السلطة في الدستور وأن مجلس النواب هو من يجسد إرادة الشعب فيها بقانون انتخاب معقول ومرن، وتضمن عدم تفريغ المواد والنصوص الدستورية من مضمونها كما حصل عبر سنوات طويلة وممارسات عديدة، وتضمن أن تضع الملك في أعلى درجات الرمزية للدولة وتوفير أقصى حدود التقدير والاحترام له دون أن يمارس الملك السُلطة بالمعنى الذي يحاول معظم المتنفعين أن يقنعونا به لتبرير تسلطهم وتغولهم على السلطات والحريات ،وذلك من أجل إعادة تأهيل الدولة لتضبط سلوك المسؤول وسلوك المواطن على حد سواء.

على المخلصين للوطن ومحبيه أن لا يصمتوا أو يترددوا في هذه المرحلة الحساسة، وأن يدفعوا باتجاه تعديلات دستورية تحقق الاستقرار للوطن وتحقق الاستقرار للنظام الملكي الذي نحن بأمس الحاجة له في الأردن لحفظ التوازنات على أصعدة الوطن المختلفة بسبب التركيبة المجتمعية والديمغرافية للوطن، وذلك من أجل العبور لمستقبل آمن ومشهد سياسي مستقر، والأمل معقود أن تدفع التعديلات المتوقعة من اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية باتجاه تعزيز الحياة الديمقراطية واستقرار الأردن وتعزيز النهج الذي يصون الحقوق والحريات دون الخشية –كما يوهمنا البعض- بخطورة المساس بصلاحيات الملك والتي هي مصونة بموجب الدستور الذي يضمن في تشريعاته التوازن والتكامل بين جميع نصوصه.

الأكثر قراءة
00:00:00