نظرية المؤامرة بين الحقيقة والخيال
بقلم: صالح نصيرات
قد لا يعلم كثيرون أن هذا المصطلح "نظرية المؤامرة" قد تم صكه من قبل CIA عام 1967 لوقف النقد الموجه إلى لجنة وارين المشكّلة للبحث في قضية اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1963، وأصبح المصطلح شائعا بين الناس، بحيث أصبح أي نقد أو تشكيك أو محاولة للكشف عن حقائق مخفية يُنعت بأنه يسير وفق هذا التوجه.
وانتقل المصطلح حتى أصبح يستهوي الإعلام الموجه، وفي المقابل نرى القرآن الكريم يتناول موضوع المكر والكيد عندما يشير إلى التخطيط والتدبير الذي يمارسه أعداء الأنبياء الكرام والمؤمنين برسالة السماء، ولذلك لابد من التمييز بين مكر إيجابي لصالح الحق والخير، ومكر الظالمين "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال".
نظرية المؤامرة.. شماعة لطمس الحقيقة
لقد نتج عن ذلك المصطلح حالة من الشطط والتطرف في استخدام المصطلح بين عامة الناس وبتوجيه من مؤسسات وجِهات تحاول إيقاف كل محاولة لإظهار الحقيقة.
واليوم عندما يكتب مسلم عن الكيد للدين وأهله والمكر بالدعاة والمعارضين للظالمين، صار من السهل الهجوم عليه وتسخيف رأيه بنعته بأنه يتصرف وفق "عقلية المؤامرة"، ولأن الجماهير -بشكل عام- يسهل قيادها وتوجيهها لتصبح أداة في يد الظالم، فإنها لا تتردد في إطلاق النعوت على الآخر المخالف للراهن القائم.
إضافة إلى أن الجماهير بشكل عام لا تفكر تفكيرا حرا، ولا تصرف وقتا كافيا للتدبر والتأمل في الحوادث والأحداث اليومية، وليس لديها الوقت الكافي للتنقيب والبحث الموضوعي.
ظاهرة الروح الجماعية للجماهير عبر التوجيه المنظم
وقد كتب غوستاف لوبون كتابين حول ظاهرة تشكل الروح الجماعية للجماهير عن طريق التوجيه المنظم من قبل فئة من الفئات، كما درس المفكر والأديب الأرجنتيني بورخيس ظاهرة توظيف لعبة كرة القدم من قبل الأنظمة الاستبدادية في أمريكا اللاتينية بقصد إلهاء الجماهير عن المطالبة بحقوقها وحرياتها.
ويعتمد المستبدون دوما على هذه الظاهرة الإنسانية للإفلات من العقاب، والاستمرار في قيادة القطيع، مستخدمين الخطاب المؤثر والكلمات الرنانة حتى يغدو هؤلاء القتلة "آلهة" تعبد من دون الله، وفرعون القديم والجديد يضحك على الجماهير من خلال التلاعب بالكلمات والتظاهر بالبكاء والحرص على الشعوب المخدرة والموجهة بفعل إعلام خبيث؛ ليصبح أمل الشعب والأمة، وكذلك قوم لوط الذين قلبوا موازين الحق، فأصبح أهل الصلاح والإيمان والطهارة مجرمين في نظر الجمهور "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون".
والذين يريدون تغيير واقع معين لصالحهم، فإنهم يستخدمون أساليب شتى ومفردات معينة يتم تكرارها باستمرار حتى تصبح جزءا من الذخيرة اللغوية للجماهير، فمصطلحات مثل الإرهاب والتطرف و"الداعشية" والتعصب يتم تعميمها وتوظيفها إعلاميا من قبل أفراد بعينهم ضد آخرين بقصد نزع المصداقية عن أقوالهم وأفعالهم، وقد رأينا كيف يصبح المسلم الداعي إلى الحق والخير والصلاح والمعارض الذي يدعو إلى منح الناس حقوقهم والحد من الظلم مجرما ومتآمرا مع العدو.
حق يراد به باطل
ولأن من يدبر ويخطط ويمكر ويكيد ليس إنسانا ساذجا، فإنه يخدع الجماهير بأعمال تبدو ظاهريا أنها تصب في النفع العام، فترى دعوات هنا وهناك لتحسين الاقتصاد أو تطوير قدرات ومهارات وتمكين لهذه الفئة أو تلك، ومن خلال تلك الأفعال التي تدر مالا وجاها على أصحابها، ويتم تلميعهم تحت الأضواء، ويصبح نقدهم جريمة، مع أن المتفحص لهذه الظاهرة يمكنه بسهولة أن يرى الأهداف الخبيثة وراء تلك الأفعال، وعندما ينتقدها أو يحاول بيانها، تجد من يتهمه بسهولة فيصمه بأنه من أصحاب نظرية المؤامرة وأنه يركز في نقده على السلبيات والهدم بدلا من البناء الإيجابي.
إن أخطر شيء على المستبد والماكر أن يعي الناس حقيقته، وأن يصلوا إلى معرفة ما يمكر به ويخطط له، ولذلك وبفعل المال المتوفر له من قبل الجهات المعنية بالتغيير فإنه مستعد للشروع في أي عمل بدءا من التسخيف والتشويه إلى استخدام القوة القانونية، وإن لم تفلح فإن السجون والمشانق جاهزة.
وهذا رأيناه ونراه في حكم الأقليات والعسكر وغيرهم ممن ابتليت الأمة بهم، فالدعاة إلى الله والمصلحون في نظرهم مهرطقون ومهرجون، ثم إذا وجدوا أن لهم قبولا لدى الناس أصبح عليهم تغيير النهج، فيصبح الدعاة بين عشية وضحاها "متآمرين" ويعملون مع العدو الخارجي.
إن مهمة المثقفين الأحرار أن يزيلوا الغشاوة عن أبصار الجماهير التي تساق سوقا إلى عبادة الشهوات واتخاذ الهوى إلها من دون الله، فمن يتخذ الهوى إلها من دون الله، فلن يرى الحقيقة حتى لو كانت كفلق الصبح.