إسرائيل: من الجلاد إلى الضحية!

الصورة
جنود من جيش الاحتلال في مدينة رام الله بالضفة الغربية | المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية
جنود من جيش الاحتلال في مدينة رام الله بالضفة الغربية | المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية
آخر تحديث

منذ نكسة عام 1967 واحتلال "إسرائيل" لما تبقى من الأراضي الفلسطينية، بما فيها الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، دخل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مرحلة جديدة، ليس فقط على الصعيد الميداني، بل الأهم والأخطر على الصعيد الإعلامي والسردي. 

إعلام إسرائيل زور الحقائق قبل عام 67

ففي الوقت الذي كانت فيه "إسرائيل" ترسخ احتلالا عسكريا استعماريا، كان الإعلام الإسرائيلي والغربي يعمل بشكل دؤوب على تزوير الحقائق وقلب الصورة، بحيث تظهر "إسرائيل" دولة صغيرة محاصرة، وفلسطين المحتلة –وهي الضحية– وكأنها الجاني.

لم يبدأ تزوير الحقائق بعد 1967، بل هو امتداد لسياسات دعائية بدأت منذ تأسيس الحركة الصهيونية. لكن ما بعد النكسة شكل نقطة تحول، حيث بدأت "إسرائيل" بتسويق رواية مفادها أنها اضطرت لشن "حرب دفاعية" ضد العرب الذين يهددون وجودها، وأنها "حررت" القدس و"أعادت" الأرض التاريخية للشعب اليهودي، بالإضافة إلى أنها تدعي أنها حاملة لواء الحداثة والليبرالية تحارب دفاعا عن العالم المتحضر. 

المفارقة أن هذه الرواية تم تبنيها حرفيا من قبل أغلب وسائل الإعلام الغربية، لا سيما الأمريكية والبريطانية، مدفوعة بتأثير اللوبيات الصهيونية، والتحالف الاستراتيجي بين الغرب و"إسرائيل" كقاعدة متقدمة لمصالحهم في الشرق الأوسط.

هندسة الصورة في الإعلام الغربي

بعد 1967، أصبح مشهد الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح، الذي يقف أمام الطفل الفلسطيني الحافي، يقدم للرأي العام الغربي بصورة مختلفة تماما. فبدلا من التركيز على كون هذا الجندي يمثل قوة احتلال تنتهك القانون الدولي، تم تقديمه كـ"مدافع عن نفسه" ضد "الإرهاب الفلسطيني". 

أما الفلسطيني، فتمت شيطنته بصورة منهجية: إما متطرف ديني، أو انتحاري، أو رافض للسلام. وهكذا، تلاعب الإعلام الغربي بمفاهيم أخلاقية مركزية، محولا الصراع من قضية تحرر وطني إلى قضية "أمن إسرائيلي". 

لا يمكن تجاهل أن جزءاً من الإعلام الغربي سقط في فخ الرواية الإسرائيلية بسبب جهل حقيقي بالتاريخ، وعدم فهم عميق للسياق الاستعماري. لكن الجزء الأكبر كان بسبب الانحياز السياسي والأيديولوجي. فحين تتحكم إسرائيل برواية الأحداث، وتُفتح أبواب كبرى الصحف العالمية لمتحدثيها، بينما يُحاصر الصوت الفلسطيني، يصبح من السهل السيطرة على الوعي العام العالمي.

 

الإعلام الإسرائيلي نفسه، والذي غالبا ما يقدم كإعلام "حر"، يلعب دورا أساسيا في هذا التزوير. فرغم وجود مؤسسات صحفية مستقلة، فإن الرواية الأمنية والعسكرية التي تقدمها الدولة يتم تبنيها بشكل واسع، خاصة في أوقات التصعيد، حيث تتحول الصحافة إلى أداة تعبئة قومية، وتمارس الرقابة الصارمة على التغطية المتعلقة بالاحتلال.

استمرار الاحتلال وتوسيع الاستيطان تحت غطاء "الدفاع"

منذ 1967 وحتى اليوم، لم تتوقف "إسرائيل" عن التوسع الاستيطاني، وفرض نظام أبارتهايد فعلي في الأراضي المحتلة، وتجريف القرى، وتهجير السكان، وارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين وآخرها تجويع أهل غزة، وهي جريمة حرب وإبادة جماعية. ومع ذلك، لا يزال الخطاب الإعلامي الغربي يتحدث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كلما ردت المقاومة الفلسطينية على عدوان الاحتلال. 

اللغة نفسها باتت أداة من أدوات التزوير؛ فالمستوطن أصبح "مواطنا"، والمقاوم أصبح "إرهابيا"، والجدار الفاصل أصبح "حاجزا أمنيا"، والاجتياح العسكري صار "عملية أمنية"، أما الاحتلال ذاته وهو أطول احتلال بالتاريخ، فلم يعد يذكر أصلا، وكأن القضية بدأت بـ"العنف الفلسطيني"، لا بعدوان 1948 واحتلال 1967، حيث لم ينجح العرب في تنفيذ وإنفاذ قرار مجلس الأمن الدولي 242 لدى المؤسسات والشرعية الدولية لإبطال الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والأراضي العربية، ونجح العدو المحتل في تسويق خرافة ما يسمى الوعد الإلهي لليهود في فلسطين، وفي حق احتلال واستيطان ما يسمى مناطق يهودا والسامرة والقدس الشرقية.

نحو استعادة السردية الفلسطينية!

في زمن الانفتاح الإعلامي الرقمي، بات بالإمكان كسر هذا الحصار السردي جزئيا، عبر وسائل الإعلام البديل، ومنصات التواصل الاجتماعي، والصحفيين المستقلين الذين ينقلون الحقائق من قلب الميدان. لكن لا تزال المهمة الأكبر تقع على عاتق النخب السياسية والإعلامية العربية والفلسطينية، التي يجب أن تعمل على بناء رواية تاريخية موثقة، ومؤسسات إعلامية ذات مصداقية، قادرة على إعادة تقديم الضحية كضحية، والجلاد كجلاد، دون مواربة أو خوف من "اللوبيات". وخصوصا أن الرأي العام العالمي بدأ بالتغير وأصبح متعاطفا مع حقوق الفلسطينيين، يطالب علنا بوقف الحرب في غزة والاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية. 

إن معركة فلسطين لم تكن يوما معركة سلاح فقط، بل معركة وعي وسرد أيضا. ومن يربح السرد، يربح التعاطف، وربما الربح الأهم: الحق في الوجود على أرضه حرا. 

اقرأ المزيد.. بروتوكول هانيبال: عقيدة "الموت أهون من الأسر" في الجيش الإسرائيلي

00:00:00