من وحي دعوة ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني خلال زيارته الأخيرة إلى محافظة الطفيلة لكتابة السردية الأردنية

الصورة
الأمير الحسين خلال زيارة محافظة الطفيلة 19/11/2025 | الديوان الملكي
الأمير الحسين خلال زيارة محافظة الطفيلة 19/11/2025 | الديوان الملكي
آخر تحديث

السردية هي البنية العميقة التي تمنح الإنسان القدرة على فهم ذاته والعالم من حوله، وهي الإطار الذي يعيد ترتيب الوقائع، ويحول الزمن المبعثر إلى خط له بداية ومسار ونهاية. ومن خلال السردية، يصبح الماضي ذاكرة حية، والحاضر تجربة واعية، والمستقبل أفقا مفتوحا على الاحتمال. 

لكن السردية لا تنشأ في الفراغ؛ إنها تتجذر في المكان؛ فالمكان ليس مجرد مساحة جغرافية أو تضاريس طبيعية، بل هو مسرح للذاكرة، ووعاء للرموز، ومرآة للهوية. 

حين يروي الإنسان قصته، فإنه يربطها دائما بمكان ما: بيت الطفولة، القرية، المدينة، الصحراء، أو الجبل. المكان يمنح السردية ملمسا واقعيا، ويحولها من مجرد خطاب إلى تجربة متجسدة في الأرض والزمان. 

في هذا المعنى، يمكن القول إن السردية هي لغة المكان، والطريقة التي يتحدث بها المكان إلى الإنسان عبر الحكايات والأساطير والتجارب اليومية. فالأرض التي زرعت، والمعادن التي استخرجت، والمياه التي جرت في السواقي، كلها تتحول إلى قصص تروى، وإلى سرديات تشكل وعي الجماعة وتحدد علاقتها بالبيئة والتاريخ. 

السردية كجسر بين الإنسان والمكان 

الإنسان بطبيعته كائن سردي؛ لا يستطيع أن يعيش بلا قصة يرويها عن نفسه وعن الآخرين. ومن خلال هذه القصة، يكتسب معنى وجوده، ويجد موقعه في العالم. المكان -بدوره- هو الحاضن لهذه القصة، والفضاء الذي يمنحها شرعية وتجذرا. 

حين نتأمل المدن القديمة أو المواقع الأثرية، ندرك أن قيمتها لا تكمن في حجارتها وحدها، بل في السرديات التي نسجها الناس حولها: سردية التأسيس، وسردية المقاومة، وسردية الإبداع، وسردية الانتماء. هذه السرديات هي التي تجعل المكان حيا، وتحوله من مجرد أطلال إلى ذاكرة جمعية، ومن مجرد موقع جغرافي إلى رمز للهوية. 

ولذلك، فإن فقدان السردية يعني فقدان القدرة على قراءة المكان وفهمه. المكان بلا سردية يصبح صامتا، والإنسان بلا سردية يصبح غريبا عن أرضه وعن ذاته. أما حين تتكامل السردية مع المكان، فإنها تمنح الإنسان شعورا بالانتماء، وتفتح أمامه أفقا للتأمل والإبداع. 

أهمية السردية للإنسان 

تكمن أهمية السردية في أنها تمنح الإنسان القدرة على:

  • بناء الهوية: من خلال السردية، يحدد الفرد والجماعة من هم، وما علاقتهم بالماضي والمستقبل.

  • إعطاء معنى للتجربة: الأحداث اليومية تصبح ذات مغزى حين تروى في إطار سردي، وإلا بقيت مجرد وقائع متفرقة.

  • تعزيز الانتماء: السردية تربط الإنسان بالمكان، وتجعله يشعر أن الأرض التي يعيش عليها ليست مجرد مساحة، بل جزء من قصته الشخصية والجماعية.

  • إحياء الذاكرة: السردية تحفظ الماضي من النسيان، وتعيد صياغته بما يخدم الحاضر ويلهم المستقبل.

  • فتح أفق الإبداع: السردية ليست فقط إعادة رواية لما حدث، بل هي أيضا إعادة تخيل لما يمكن أن يحدث، أي إنها تفتح المجال أمام الفن والأدب والفكر. 

السردية إذن هي أكثر من مجرد حكاية؛ إنها جسر بين الإنسان والمكان، ووسيلة لفهم الذات والآخر، وأداة لحفظ الذاكرة وصياغة الهوية. من دونها يفقد الإنسان القدرة على قراءة العالم، ومن دون المكان تفقد السردية جذورها وتجسيدها. 

إنها العلاقة الجدلية التي تجعل من كل حجرٍ في الأرض قصة، ومن كل قصةٍ ذاكرة، ومن كل ذاكرة هوية تنير طريق الإنسان في رحلته عبر الزمن. 

وفي مواجهة التحديات الخارجية، تبرز السردية الوطنية كدرع يحمي الهوية الجامعة من محاولات التفرقة والتشكيك. فهي تذكر الأردنيين بأنهم أبناء أرض واحدة، وأن تاريخهم المشترك هو مصدر قوتهم في الحاضر والمستقبل. ومن خلال استحضار رموز الصمود والإنجاز، تعزز السردية الثقة بالنفس وتوحد الشعب حول رؤية واحدة، تزيد الأردن تماسكا وقدرة على مواجهة العواصف بروح جماعية لا تنكسر.

السردية الأردنية هي الخيط الذهبي الذي يوحد مكونات المجتمع في نسيج يجعل من تنوعه قوة ومن اختلافه ثراء. إنها الحكاية الجامعة التي تعيد صياغة التاريخ والذاكرة لتقول إن كل فرد، وكل جماعة، وكل منطقة، كانت جزءا من مسيرة الوطن، وأن الأردن لم يبن بجهد فئة واحدة، بل بعرق الجميع وإبداعهم. بهذا المعنى، تتحول السردية إلى جسر يربط الماضي بالحاضر، ويرسخ قيم التضامن والانتماء، فتغدو الهوية الوطنية بيتا واسعا يتسع للجميع.

اقرأ المزيد.. إشكاليات في الحديث عن الهوية الوطنية

دلالات
00:00:00