التعليم.. بين الشتات والاستلاب

الصورة
أطفال في الشارع | تصميم توفيق الضاوي
أطفال في الشارع | تصميم توفيق الضاوي
آخر تحديث

بتنا نعيش زمن ضياع المحتوى وفقدان الهدف الأصلي من الأشياء، فباتت الوسائل غايات، وليس من وراء الغاية نتيجة تؤمل ولا مقصدا يرجى ولا مثقفا يبنى بل شهادة على الحائط! كيف لا، وقد بات العلم أوراقا والقواعد والقطعيات ظنيات، والمبادئ والقيم رجعية والمؤسسات مباني! 

يروى أنه "أتى مريض يشكو إلى طبيب مرضه، فقال له الطبيب: راجع غذاءك كي تقي نفسك من مثل هذا المرض!". يظهر المشهد في نظر البعض وكأن الطبيب لم يعالج المريض، ولكن الفلسفة الطبية تقول بأنه أعاده إلى أساسات صحته التي إن التزم بها قد يشفى من مرضه ويقي نفسه من الأمراض! 

ضياع الهدف: حين نترك أساسات العلم ونتوجه إلى حلول جزئية

فعلام نترك أساسات العلم التي بني عليها منذ يومه الأول ونتوجه إلى حلول جزئية آنية لمشكلة فرعية هنا أو هناك! وعلام نفرغ التعليم من جوهره والمتعلم من غايته! سيأتي الجواب الواقعي من ممارس للتعليم والتعلم لسنين طويلة في المدارس والجامعات والله الموفق! 

من نافلة القول أقول: أي علم يتوقع حصوله في ظل تشتيت الجهود الأكاديمية، وإقصاء للكفاءات، والالتفات إلى العمل الورقي والاعتمادات المحلية والدولية بدلا عن الإنتاج الأكاديمي النظري الواقعي والعملي المثمر والتحصيل التربوي، وأي نتيجة ترجى في ظل الكولسات والمحسوبيات والمؤامرات والمكائد لكل ناجح/ة، أم أي وزن لمعلم وهو يوزن بموازين مطففة بكفة تدين هذا وذاتها تبرئ ذاك، أي طالب/ة سيتخرج في ظل إهمال الجانب الروحي والأخلاقي لديه، والابتعاد عن غرس منظومة القيم التربوية داخل أسوار المدارس والجامعات! أي نتاجات سوف نجنيها في ظل توصيفات وخطط للمواد ليس الهدف منها تطبيقها بمقدار جمالها وموسيقاها الرنانة على الآذان! 

ما أجمل التكنولوجيا التي دخلت حياة البشر، وما أتعسها عندما كان أبناؤنا ضحية لها، وتعليمنا يستخدمها كاستعراض بدلا من تذليلها لتحقيق الغايات الأسمى للعلم وخدمة المتعلم مما يعود على الوطن بالرقي والسؤدد، فما بنيت الأوطان بمثل العلم النافع والعلماء الصادقين. وأذكركم بقوله تعالى: "وَيلٌّ للمطففين."

أي مدرسة يرجى لها النجاح بمخرجاتها، وأي جامعة يفتخر بخريجيها، إذا غلب الاهتمام بالصروح الأسمنتية على بناء الصروح العقلية؟ وأي منهجية إدارية يمكن لمؤسسة أن تستقيم عليها، إذا كانت سياساتها تتبدل مع كل مسؤول جديد، يأتي ليقول: "ما أريكم إلا ما أرى" كيف تستقيم الأمور، وهو يضع نفسه فوق القانون، وفوق مواضع الشبهات، وقد سرغ ما لا يسوغ، فنال رضا هذا وذاك، وزاد في أرصدتهم من العلاقات أو الحسابات البنكية! 

كم توجعني أخبار المنشورات البحثية بالمواصفات الفلكية التي تفرض على العرب بغير مقياس علمي حقيقي ولا مسطرة يقاس بها الناس كأسنان المشط! إلام يستنزف الأكاديمي كي يحصل على ترقيته فيقدم شتى فروض الطاعة لمسؤوله الذي سوف ينسب به قبولا أو رفضا بناء على منطقته أو القربان الذي سيقدمه! 

إلى شريف علمكم أقدم هذا الجواب: 

الحداثة وما وراء الاستعمار 

نهبونا ثم باعونا سلعتنا، قال عبد الوهاب المسيري رحمه الله في كتابه (رحلتي الفكرية، في الجذور والبذور والثمر 1998): 

"أدركت أن التقدم الغربي هو ثمرة نهب العالم الثالث، وأن الحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه، وأن نهضة الغرب تمت على حساب العالم بأسره." 

وإن ما خلفه الاستعمار في الدول المستعمرة جعل ما قاله ابن خلدون في المقدمة واقعا ملموسا لما يعيشه العرب في تعليمهم، حيث قال: 

"إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده." 

وبالفعل فإن الانهزامية الاجتماعية التي يعيشها كثير من العرب المسؤولين عن التعليم جعلت التبعية الفكرية واقعا لا مناص منه -في نظرهم- فقاموا بما قاموا به من اعتماد مناهج الغرب التدريسية، ودوراتهم العلمية، وامتحاناتهم اللغوية وغير ذلك الكثير... ولست ضد الحداثة بمعناها الإيجابي الذي نأخذ فيه من الدولة المتقدمة علميا أجود ما يتناسب وخصوصيتنا ثم نضيف عليه لمستنا وإبداعنا وابتكارنا! 

الإدارة والهيمنة الوظيفية 

ألخص المشهد في صورة واحدة: رجل لا يفقه من علم الإدارة شيئا، ولم يتلق دورة تكشف له أبجدياتها، ولا عرف عنه نجاح اجتماعي، ولا اتصف بالحكمة أو الريادة أو الابتكار، ولم يشهد له أحد -ولو من باب المجاملة- بأنه يحسن الإدارة بحدها الأدنى. ثم لسبب يعلمه كل مراقب آلت إليه وظيفة يتولى فيها أمر مئات البشر، كأنه المنعم المتفضل عليهم، فأسرف في الإفساد ما لا يفسده الذئب في الغنم. إذ كان همه الانتفاع من المنصب، وإشباع نهم الكرسي والسلطة لديه، وتفريغ ما في صدره من حنق على فئة أو منطقة، مع انتفاخ بثوب زور لم يعط له حقا! وجعل مكتبه إرصادا لكل من عادى العلم وأهله، وتقرب لشخصه المتضخم بالطاعة والولاء! 

فقولوا لي بربكم: كيف سيكون حال الصرح الأكاديمي بعد سنوات من هذا العبث؟ أي عالم سيعلم؟ وأي علم سيعلم؟ وأي متعلم سيتخرج؟ وكيف يرجى صلاح علم يرتع فيه جاهل أطلق يفسد في أمر من أجلّ ما خلق الله تعالى: العلم؟ 

تَربَّع الجاهلُ فوقَنا مٌتسلّطا
وأقامَ للكرسي سُلطانا مهيبا

يُعادي العلمَ إن لم يسجُد لمَطمَعه
ويُكرِمُ من أضحى جهله مقرَّبا قريبا

رسالة التعليم وسلعة السوق 

هناك أمور في الحياة لا بد فيها من توحيد بوصلتها كي تنجح لأنها لا تقبل القسمة على اثنين إما أبيض أو أسود، فالجيوش مثلا لا يجوز أن يكون ولاؤها إلا لوطن واحد؛ فلو تعددت الولاءات لخارت الجيوش وضاعت البلدان. وقل مثل ذلك في العلم، فمتى كان هدف المؤسسة التعليمية الربح وزيادته فقط، قلت الجودة وانخفضت المعايير وانحرفت البوصلة! 

وحيثما يممت وجهك ترى تقليص الرواتب والمفاضلات الوظيفية تعج بها أغلب المؤسسات التعليمية حتى وصلت إلى أن يدخل فيها شفهيا أو ورقيا قول المسؤول (كم أقل راتب تقبل به يا أستاذ؟) وهنا يقف هذا الأستاذ على شفير هاجس البطالة العصيبة، وثلاجة بيته التي تعصف فيها الريح، وأقساط مدارس أبنائه المتكدسة وطلبات أطفاله بطفولتهم التي لا تجامل! وبهمسة من لسانه يعلم أن الذي سيقبل بخمسة دراهم أقل منه سوف يقدم عليه دون أن يرف للإدارة جفن! فماذا بربكم عساه أن يقول! 

ولا أنكر هنا أنني أوافق صاحب المال في حقه في الانتفاع ولكن ليس على حساب المنظومة التعليمية! فالعلم أولا والعلم ثانيا لأنه مصلحة عامة، والمصلحة العامة مرفوعة فتقدم على المصلحة الخاصة المكسورة! 

إذا صار علمُ القوم سلعةَ تاجرٍ
فقلْ على أجيالهم: لا علمَ يُكرَمُ

وختاما.. أعتذر من كل طالب علم لم نكن يوما على قدر طموحه رغما عنا، وأعتذر لسوق العمل الذي خيبنا ظنه، وأعتذر لزملائي المحترمين وزميلاتي الموقرات حيث بذلوا كل ما لديهم وهم يدرسون ليصبحوا نبراسا في الظلمات، ثم آلت بهم الظروف لأن تقاس قيمتهم بقيمة ملف المادة! وأعتذر لقطار العلم الذي يقف في المحطة فريدا ينادي الركاب كي ينطلق بهم إلى المجد ولا مجيب إلا من رحم الله تعالى! ولات حيت مندم!

يا أيها العلماءُ يا ملحَ البلد 
من يصلحُ الملحَ إذا الملحُ فَسد

اقرأ المزيد.. بين المعروض والمطلوب

دلالات
00:00:00