قانوني، كاتب
إشكاليات في الحديث عن الهوية الوطنية

يعد الحديث عن الهوية الوطنية من أكثر القضايا حساسية في البيئة الأردنية وهذا ناتج عدم نضوج هذه الفكرة وأهميتها في عقول النخب السياسية الأردنية قبل الشعب.
من المعلوم أن الأفكار السائدة هي نتيجة طبيعية وصورة معكوسة للنخب السياسية السائدة، فقد بقيت الهوية الأردنية محل تبخيس وتشكيك في الشارع الأردني لمدة عقود طويلة نتيجة للأفكار المطروحة من النخب الفكرية التي تشكل الرأي العام منذ استقلال الأردن حتى وقت قريب.
مع استقلال الأردن وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الأفكار والنخب القومية هي المسيطرة على المشهد السياسي وتشكل منظومة الشارع الفكرية، كانت هذه النخب القومية العروبية تنظر إلى الهويات الوطنية باعتبارها أحد إفرازات الحقبة الاستعمارية، وكان يتم الانتقاص من فكرة الدولة الوطنية والدولة القُطرية بوصفها نقيضا للهوية القومية العروبية والوحدة العربية. والجميع يردد قول الشاعر فؤاد الخطيب وهو يقول:
ولقد برئتُ إليك من وطنيةٍ... ليست تجاوز موطن الميلادِ
في تلك الحقبة أصبحت النخب تزاود على بعضها بالانتقاص من الدولة القُطرية والهوية الوطنية.
مع تراجع المد القومي بعد هزيمة 1967 وصعود المد الإسلامي، أصبح الحديث عن الهوية الوطنية نقيضا للدين في نظر الشارع، وأصبحت أشواق الناس تتطلع إلى إقامة الدولة الإسلامية، فأصبح الحديث عن الوطنية من باب المحرمات الشرعية، وأصبحت فكرة الدولة الإمبراطورية من موجبات الدين والاعتقاد المقدس، والأفكار المقدسة لا يمكن مواجهتها أو مجابهتها. فرعت الرايات الدينية مكان الرايات والأعلام الوطنية، وكان مجرد وضع العلم الوطني فيه نوع من التشكيك والتحريم والازدراء والاتهام بالجاهلية.
3 أفكار تنتقص من الدولة الأردنية
في تلك المراحل الزمنية ظهرت مجموعة من الأفكار التي تنتقص من الدولة الوطنية الأردنية وتزدريها، وبعضها ما زال منتشرا في بعض فئات المجتمع حتى اليوم، وأهم هذه الأفكار:
1- الأردن ولد من رحم اتفاقية سايكس بيكو
في هذه الفكرة يتم القفز عن الظروف التي أنشأت الدولة الأردنية، وأن الدولة الأردنية ولدت وقام نظامها السياسي، كما ولدت جميع الدول العربية في غرب آسيا بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية بعد خسارتها الحرب. فليس الأردن الدولة الوحيدة التي ولدت من اتفاقية سايكس بيكو؛ فسوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق وجميع دول الخليج العربي، جميعها ولدت من هذه الاتفاقية. فالتشكيك بشرعية ميلاد الدولة الأردنية والغمز فيها هو تجنّ على الدولة الأردنية، واستخدام أسلوب الحجب والتمرير في رواية التاريخ لحقبة زمنية شكلت المنطقة بأكملها وليس الأردن فقط.
2- الدولة الأردنية دولة وظيفية وستزول بزوال "إسرائيل"
من يقرأ التاريخ جيدا وكيف قامت الثورة العربية لإقامة الدولة العربية الكبرى بموجب اتفاق الشريف حسين بن علي مع مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر عام 1915، من أجل إقامة مملكة عربية كبرى تضم جميع دول الخليج وبلاد الشام بما فيها فلسطين قبل أن يصدر وعد بلفور، والعراق أيضا، وكيف تم إسقاط مملكة فيصل في سوريا في معركة ميسلون، وقدوم الملك عبدالله لمناصرة شقيقه الملك فيصل لمواجهة الفرنسيين، وبعد ذلك مؤتمر أم قيس وذهاب الملك عبدالله إلى القدس لمقابلة تشرشل، الذي كان وزير المستعمرات البريطانية، وأخذ منه موافقة على قيام إمارة شرق الأردن وإخراجها من وعد بلفور... من يقرأ تلك التفاصيل والسياق التاريخي يتخلص من تلك الافتراءات عن الدولة الأردنية وظروف ميلادها. إذ إن قيامها كان إنجازا كبيرا في تخليص دولة عربية من وعد بلفور؛ فالدولة الأردنية دولة عربية قامت لتستمر، وليست دولة وظيفية جاءت لحماية الدولة الإسرائيلية كما يروج البعض فهي دولة قامت قبل قيام "إسرائيل" بل إن الدولة الأردنية هي الأرض التي تم انتزاعها من فم المحتل الصهيوني قبل أن يصل إليها. فالأردن بعد أن سقطت مملكة فيصل الأول في سوريا، وسقطت مملكة فيصل الثاني في العراق، وخرج الخليج من وعود إقامة مملكة عربية كبرى، هو آخر المعاقل وما تبقى من حلم المملكة العربية الكبرى التي سعى لها الشريف الحسين بن علي.
3- الأردن دولة غير معروفة في التاريخ
حيث تقول تلك الفكرة إنه لا يوجد في التاريخ دولة تسمى الأردن. من يقرأ التاريخ ويتابع الحضارات على أرض الأردن يدرك مكانة هذه البقعة الجغرافية في تاريخ الشرق الأوسط؛ فهي مهد المملكة النبطية العربية وعاصمتها البتراء، وهي مركز الفتوحات الإسلامية، فالقصور والقلاع الإسلامية شاهد على مكانة الأردن وحضاراته. والأهم من ذلك المرويات الدينية الإسلامية التي تتحدث عن جنان الأردن، وعن حوض النبي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضا من اللبن.
ومن يقرأ كتاب صحوة الرجل المريض لموفق بني مرجة يعلم كيف كانت الدولة العثمانية تقسم بلاد الشام، وتسمي جند الأردن ليشمل شمال الأردن وشمال فلسطين، وتسمي جند فلسطين ليشمل جنوب الأردن وجنوب فلسطين، فعدم المعرفة بالتاريخ ومكانة الدولة الحضارية هو ما سبب هذا الخلط المتعمد عند البعض لتنطلي الخديعة الفكرية والتاريخية وتلك المقولات غير الصحيحة على الناس.
3 إشكالات فكرية مع صحوة الهوية الوطنية
منذ ربع قرن بدأت صحوة الهوية الوطنية، لكنها صحوة شابها كثير من عدم النضج في الرؤية والنظرية السياسية التي تدافع عن الهوية الوطنية، فظهرت عدة إشكاليات فكرية أهمها:
1- عدم وضوح إطار الهوية الوطنية التي نريد
فتمت محاولة إظهار الهوية الأردنية في حالة تناقض مع الهوية الفلسطينية، فأصبح ذلك أمرا يشكل حالة من الانقسام المجتمعي. مع أن الأصل أن تكون الهوية الأردنية هي الهوية الأم التي تحتضن الهوية الفلسطينية، لا أن تكون الهوية الفلسطينية مناقضة أو بديلة عن الهوية الأردنية. فعدم وضوح إطار للهوية الوطنية في عقل النخب الوطنية أوقعنا في انقسامات تضر بمصلحة الوطن وبنيته الاجتماعية والسياسية.
كما أن هذا الخلط في حدود الإطار الفكري للهوية الوطنية أنتج نخبا وطنية أراد البعض منهم أن تكون الهوية الوطنية هي فقط لمن كان يقيم في الأردن قبل تأسيس الإمارة، فكان الرد على هذا الطرح الفكري بإطلاق فكرة الهوية الجامعة.
هذا الأمر أحدث حالة من الصراع ورفض فكرة الهوية الجامعة، فالأصل أن الهوية الأردنية هي الهوية الأم أو الهوية الرئيسية التي تقبل تنوع الهويات الفرعية تحت عباءتها، فالهويات الفرعية والأصول والمنابت وتنوعها يجب أن يكون تنوعا يغني الهوية الوطنية ويثريها لا أن يتناقض معها.
2- عدم التنظير الفكري لأهمية الدولة القُطرية والهوية الوطنية وأهميتها في بناء الدولة الحديثة
فالهوية والدولة الوطنية هما اللبنة الأساسية في بناء منظومة عربية وإسلامية قادرة على النهوض والتقدم من خلال بناء الدولة الوطنية الحديثة وبناء الاتحادات الكونفدرالية التي تحقق الأمن المشترك وتنهض باقتصاد عربي مشترك.
هذا التقصير في بيان أهمية قيام الدولة الوطنية الحديثة الناجحة أحدث حالة من التناقض مع كل ما هو إسلامي أو قومي، فكانت حالة من التآكل بين النخب الوطنية والنخب القومية والإسلامية.
3- المبالغة في ترميز ما لا يليق أن يكون رمزا للهوية الأردنية
فلا يليق بدولة ضمت رفات الأنبياء وقامت عليها أقدم الحضارات العربية وأعرقها مثل الحضارة النبطية والحضارة الإسلامية بقلاعها وقصورها، أن يتخذ من المنسف رمزا للهوية الوطنية. فلكل شعوب الأرض الأكلات الشعبية التي يتعلقون بها، فلا يمكن للوجبات أن تعد رمزا للوطن والتعبير عن هويته إلا إذا كانت الأمم فقيرة في تاريخها وتراثها. فالتاريخ الأردني القديم والعريق ومكانته الدينية أعلى وأرفع من جعل الطعام رمزا من رموزه الوطنية. فترميز المنسف –على سبيل المثال– أمر لا يليق بالهوية الوطنية.
اليوم نحن بحاجة ماسة إلى الحديث بمكاشفة ووضوح عن الهوية الوطنية، وإطلاق دور المنظرين والخبراء ورجال الفكر لإنضاج هذه الفكرة لتكون عاملا من عوامل بناء الوطن ورفعته، لا عاملا من عوامل الصراعات والتآكل المجتمعي بما يضعف الدولة ويمزق بنيانها السياسي والمجتمعي.
اقرأ المزيد.. فار من وجه الوطن