الناقل الوطني.. قرار تكتيكي لمشروع استراتيجي

الصورة
مشروع الناقل الوطني
مشروع الناقل الوطني

ينتابني فضول كبير لمعرفة طبيعية وحيثية النقاش الذي دار في مجلس الوزراء لاتخاذ جملة من القرارات المصيرية الأسبوع الماضي، التي أعتقد أن الدوافع وراء الاستعجال بها ما زالت مجهولة، باستثناء مشروع الناقل الوطني الذي أجزم أن جميع الأردنيين يجمعون على أهميته وضرورة الإسراع بتنفيذه. فكيف دار الحوار حوله؟ وكم استغرق نقاشه؟ وما هي الهواجس التي بزغت؟ وما هي التطمينات التي أطفأت لهيبها، من سأل ومن أجاب؟ جميعها أسئلة مفترضة لقرار بهذا الحجم وبتلك الأهمية، إلا أن النبرة التي صدر بها القرار، بمضمونه وترتيباته المعلنة، تدعونا للافتراض بأن أيا من هذه الاعتبارات لم تطرح. 

في القضايا المصيرية، سأحاول أن أتجنب الإسهاب في النثر والسجع والقوافي، فهي تطرب ولا تثمر، وتلهم صاحبها دون أن تسعف بالضرورة سامعها. فمنذ أن قرأ له والده الفنجان، ظل ولده تائها في البحث عنها، لكنه مات ولم يجدها، فطريقها كان مسدود. 

ربما يتوجب علينا في هذه المرحلة الحاسمة من عمر المشروع، تسليط الضوء على أبرز الاعتبارات التي يتوجب توخيها قبل المضي به، فبمجرد إقراره بشكله النهائي، فإننا سنكون أمام التزامات مالية وظروف فنية ستمتد آثارها لعقود من الزمن دون توفر هامش للتنصل منها، ولنا أن نتصور الفرق بين مشروع أحسن تصميمه وهيكلته كمطار الملكة علياء الدولي، وبين مشروع جدلي كالعطارات، شُرع بتنفيذه بدوافع حماسية لكن ربما بمعطيات آنية ومنظور قصير الأمد. 

متقدم واحد لمشروع الناقل الوطني

في خضم تضاؤل الفرص الاستثمارية المجدية والآمنة في أرجاء واسعة من دول العالم ومنطقتنا على وجه الخصوص، من جهة، وتعاظم مستوى الأموال المتاحة للاستثمار وبحثها المضني عن مثل هذه الفرص، من جهة أخرى، فإن السؤال البديهي الذي يتبادر للأذهان، لماذا لمشروع بهذا الحجم مثل الناقل الوطني وبمثل هذه الخاصية الاحتكارية الطبيعية، وفي دولة لم يسبق لها أن أخلت بالتزاماتها تجاه المستثمرين، أن ينتهي به المطاف، بهذا الشح من المهتمين بالظفر بفرصة الاستثمار به؟ الجواب البديهي، لم تكن تفاصيل العطاء الفنية جاهزة على نحو يحد من درجة عدم اليقين وهو ما يجعله مشروعا محفوفا بالمخاطر من وجهة نظر المستثمرين. لكن السؤال المقابل، لماذا حظي المشروع بمهتم جدي، الجواب المنطقي على ذلك، المتقدم هو ائتلاف من خمس شركات قد أخذت على عاتقها تقاسم هذا القدر من المخاطر "عدم اليقين". 

كيف لنا أن نقبل بمتقدم (بمناقص) منفرد؟ 

فهل مفهوم التنافس أو المنافسة هو مبدأ ترفي أو عبثي؟ دعونا نتصور أن جهة حكومية ما أقدمت على شراء أثاث مكتبي بالتلزيم، ونفترض أن لها أيضا مبرراتها، فكم لجنة ستشكل لها؟ وكم جهة ستبت بأمرها؟ فكيف إذن لمشروع تتجاوز كلفته 3 مليار دينار أن يحال بهذه الصيغة دون توفر آلية تضمن أدنى الأسعار لأفضل المواصفات؟ فهل ستعتمد الحكومة على التقديرات الأولية التي توصلت لها في تسعير المشروع؟ وهل حاولت الاستفادة من التجارب السابقة؟ وهل لديها تصور شافٍ بأن المتقدم قام بعملية تسعير عادلة ومنصفة؟ دعونا نتصور كم الأسئلة التي سنضطر للإجابة عنها حتى نجيب عن التساؤل الأساسي "كيف لنا أن نقبل بمتقدم منفرد للعطاء؟". 

هل كان بالإمكان الخروج بتصور آخر لتنفيذ مشروع الناقل الوطني 

تشير التجارب والممارسات العالمية إلى أن اللجوء إلى شريك استراتيجي خارجي في حالات الخصخصة ومن ضمنها مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، يكون مجديا فنيا وماليا إذا كان النشاط محل الخصخصة يتطلب معرفة وتكنولوجيا متخصصة غير متوفرة محليا، في حين تتضاءل الفوائد المرجوة من ذلك في الحالة التي تكون فيها متطلبات النشاط خلاف ذلك. 

وإذا ما أسقطنا هذه القاعدة على مشروع الناقل الوطني فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها أن جانبا كبيرا منه وهو نقل المياه من محطة التنقية إلى شبكات التوزيع، يمكن تنفيذه بواسطة الشركات المحلية التي تتمتع بإمكانيات فنية كافية لتدشين خط الأنابيب وإدامتها، وهي ذاتها التي سيلجأ إليها المستثمر الأجنبي في المحصلة لتنفيذها، لكن بهوامش ربحية مركبة وإن كانت على حساب هوامش أقل للشركات المحلية. 

ربما الجزئية الوحيدة التي قد تتطلب شراكة استراتيجية هي محطة التحلية على الرغم من قناعات عدد من المختصين بسهولة استيراد معداتها وتجهيزها من قبل الشركات المختصة المحلية، فتكنولوجيا التحلية مستقرة منذ عقود وتعقيداتها الفنية محدودة للغاية. كما أن التعامل مع المشروع كوحدة واحدة ستترتب عليه ترتيبات فنية معقدة يمكن تجاوزها بتجزئة مشروع الناقل الوطني على الأقل بين التحلية والنقل والإدامة، وهو الأساس ذاته الذي انطلق منه الفصل بين أنشطة توليد ونقل وتوزيع الكهرباء وأي أنشطة ينطبق عليها مفهوم أنشطة الشبكات Network Industries. 

هل توسع عدد الشركات في الائتلاف مسألة إيجابية أم سلبية؟ 

بطبيعة الحال، لم يتم الإفصاح عن طبيعة الشركات المشاركة في الائتلاف، فمنها تشغيلي ومنها مالي، ووجود أكثر من شركة تشغيلية ما هو إلا دلالة بينة على قابلية مشروع الناقل الوطني للتجزئة. وفيما يتعلق بالتمويل ضمن الائتلاف، فكان من المفترض إعطاء الأولوية لصندوق الاستثمار للمساهمة بشكل كبير في رأس المال الشركة، فهو الأولى بمثل هذه المشاريع، هذا علاوة على أن ضعف مساهمة رأس المال المحلي لصالح الأجنبي، سيشكل ضغوطا ممتدة على الاحتياطيات الأجنبية وميزان المدفوعات، على اعتبار أن عوائد المشروع ستحول بشكل دوري إلى الخارج. 

لكن ماذا يعني تضمن الائتلاف لخمس شركات تحت مظلته؟ هذا سيعنى بالضرورة تحميل مشروع الناقل الوطني لأرباح ضمنية مركبة، فكل شركة ستسعى للظفر بجانب من ربحية الأخريات وهو ما سيفضي بالمحصلة إلى توسع الهامش الربحي الذي سينعكس في المحصلة على التعرفة للمستهلكين أو/ و ارتفاع فاتورة الدعم الحكومي المستقبلي. والأمر ذاته ينطبق على هوامش المخاطر التي ترتفع للشركة الواحدة في ظل ارتباط أعمالها وإنجازها بالشركات الأخرى المشاركة بالائتلاف وهو ما سينعكس في المحصلة على تعرفة المياه للمستهلكين وفاتورة الدعم الحكومي. 

على ماذا نتفاوض؟ 

المرحلة المقبلة كما صرحت الحكومة تتمحور حول فتح العروض المالية ومن ثم التفاوض مع الائتلاف. لكن المستغرب هنا، كيف لحكومة تضم مجموعة من الوزراء من خلفيات دبلوماسية وسياسية أن تضعنا بمثلب تفاوضي صعب. فالنبرة التي أصدر فيها مجلس الوزراء قراره، والتلقين الذي تلقاه الإعلام المحلي وطريقة تناوله للقرار، ومن ثم تصريح إدارة المشروع بأن الائتلاف سيباشر أعماله بعد نحو أربعة أشهر من الآن وهي الفترة التي سيتم خلالها التفاوض حول الأسعار "التعرفة"، جميعها معطيات وافية للائتلاف بأن قرار الإحالة قد حسم لصالحه. بعد كل ذلك، على ماذا سنتفاوض؟ فكل هذه الإرهاصات جعلت الحكومة بمنزلة المشتري الأسير "Captive Buyer"، فبهذه المعطيات التي قدمت بالمجان للائتلاف، وإدراكه تماما بأنه المفضل بلا منافس، وأن المناقصة ستحال عليه لا محالة، فلن يكون مستعدا لتقديم أي تنازلات، حتى في ذلك الهامش التفاوضي الذي عادة ما يتم تضمينه في التنافس على المناقصات. 

هذه الاعتبارات وغيرها من التفاصيل التي لا اطلاع لنا عليها، توصلنا لنتيجة مفادها بأننا أمام صفقة مجحفة لا بد من إعادة النظر بها، وإن كان ذلك سيعني أشهر إضافية من التأخير، بدلا من تكبد أعباء مالية إضافية لسنوات طويلة. وربما هي الاعتبارات ذاتها التي دفعت بباقي الشركات المتنافسة إلى الانسحاب. 

اقرأ المزيد.. بيانات المالية العامة تستجدي النزول عن تلكم الشجرة

الأكثر قراءة
00:00:00