كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
حوار هادئ مع حسين الرواشدة (1)
تناول الأستاذ الصحفي والصديق حسين الرواشدة في عدة مقالات بعد السابع من أكتوبر ما يخشاه على الأردن أو يخاف منه، وقد توزعت مخاوفه بين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية أو غير ذلك مما لم يُصرح به بشكل واضح سوى في مقالاته الأخيرة؛ تلك المخاوف والهواجس المتعلقة بتبعات الحرب على غزة أو تبعات "التهور" باتجاه التصعيد، والتنبيه كذلك من خطورة ارتدادات الحرب على جبهتنا الداخلية وأمننا الوطني، وأن الأردن في خطر على عدة جبهات، مع ضرورة عقلنة الخطاب العام وتصويب المسار.
الرواشدة: الأردن سيدفع ثمن مواقفه من واشنطن وتل أبيب
وأشار الرواشدة في بعض مقالاته إلى مخاوف تتحدث عن مصير التحديث السياسي الذي تم! والتنبيه إلى أن الأردن سيدفع لاحقا ثمنا غاليا كفاتورة لمواقفه على جبهتي واشنطن وتل أبيب، مؤكدا على ضرورة وجود "قضية للأردنيين" تجمعهم ويدافعون عنها وضرورة "الاستدارة إلى الداخل، وحذر كذلك من القابلية للانقسام داخل مجتمعنا وبروز بعض الكتل التي تقود هذا الانقسام.
وكان يُنهي بعض مقالاته بالعبارة التالية: "يا خسارة" وأننا قد أطلقنا النار على أقدامنا بالمقاطعة أو بالإضراب، وكان آخر مقالاته يؤكد أن بوصلة التظاهر قد انحرفت وواجب الدولة أن تتدخل، وقد علق البعض بأن مقالاته تُمثل الخذلان والتخلي في بعض صوره، وأردت أن أناقش أفكاره بهدوء لأهميتها وحساسيتها وخطورتها دون تشكيل انطباع أو أي اتهام مسبق.
بعض إدارات الدولة قررت إحياء ثنائية "الدولة والإخوان"
في خلفية المشهد وقبل البدء لا بد من تحليل الذي حدث داخليا اعتمادا على تفكيك المشهد السياسي ثم إعادة تركيبه مرة أخرى لمحاولة فهم ديناميكية التفاعلات التي حصلت منذ بداية الحرب؛ حيث قررت بعض إدارات الدولة باعتقادي ولمعادلات وحسابات خاصة بهم بعد السابع من أكتوبر إحياء ثنائية "الدولة والإخوان" والتنظير لخطورة الذي يحدث، ثم التخويف من نتائج الخطوة التي قامت بها المقاومة التي زجت بالمنطقة بأسرها في أتون حرب غير متوقعة نتائجها وغير مُدرجة في حسابات الأجندات العالمية، بغية التلويح إلى إمكانية أن يتحول كل هذا الغضب الجماهيري تجاه حالة العجز العربي إلى أصوات انتخابية في صناديق الإخوان! فتم "تمرير" هذا التخوف بطرق مختلفة إلى العديد من المحللين والسياسيين للتعامل معه على أساس أنه خطر قادم سيُحدق بالأردن، وبالفعل تبنت بعض الجهات وبعض الإعلاميين تلك الرواية وبدؤوا بالكتابة حول هذه القضية مُخوفين من النتائج والتبعات حيث وصلت المطالب إلى تأجيل الانتخابات النيابية القادمة وضرورة الالتفات إلى هذا الخطر القادم، وقد كتبتُ مقالا حينها انتقدت فيه تلك الهجمة غير المفهومة على الحركة الإسلامية تحت عنوان: "هل ستؤجل الانتخابات البرلمانية" حيث انحصرت المشكلة بكل أسف عند بعض إدارات الدولة المؤثرة في عدد الأصوات التي ستحصدها الحركة الإسلامية في الانتخابات القادمة!.
اقرأ المزيد.. هل ستؤجل الانتخابات النيابية؟
إدارات الدولة لم تتوقع التحركات عالية المستوى للقصر
لكن الذي فاجأ تلك الإدارات تصرف مؤسسة القصر ممثلة بالملك والملكة وولي العهد حيث جاءت تحركاتهم الدبلوماسية والسياسية عالية المستوى بعكس ما كانت تتوقعه تلك الدوائر برغم ارتباط الأردن باتفاقيات ومواثيق دولية مقيدة جدا للحركة التي جعلت المناورة السياسية خصوصا في ملف التطبيع والمعاهدات الدولية في أضيق حدودها.
أعقب ذلك تحركات وزير الخارجية وتصريحاته المتقدمة والتي أربكت المشهد أمامهم وجعلتهم يطالبونه بالتخفيف من حدة لهجته وهو الأمر الذي رفضه الوزير مؤكدا أنه يتصرف بحسب توجيهات القصر ولا يقوم بأي تصرف من تلقاء نفسه، وهو الأمر الذي يشير دائما إلى أن معظم مؤسساتنا تعمل وكأنها في جُزر معزولة عن بعضها دون وجود خط ناظم بينها!
فهدأ التوتر قليلا ولم تنجح المحاولة الأولى باعتقادي، ثم ما لبث أن تم استدعاء تلك الثنائية والتخويف منها بعد مسيرات الرابية الأخيرة وزخمها الشعبي الكبير والتي وجدوا فيها تأكيدا لسرديتهم ونظريتهم وفرصتهم في إعادة رفع لواء التنفير من المسيرات والاعتصامات وإمكانية ربطها بالخارج! وتم إحياء ثنائية خطيرة جديدة نائمة وهي ثنائية "أيلول الأسود والدولة" وتم التلويح بها في مفارقة غريبة لاستدعاء أحداث مضى عليها أكثر من سبعة عقود تناساها معظم الأردنيين وتجاوزوها نفسيا بكل تبعاتها وأبعادها وقصصها وسردياتها.
اقرأ المزيد.. آلاف الأردنيين يحاصرون سفارة الاحتلال لليلة الثانية على التوالي
هناك أطراف خارجية تحاول أن تجير ما يحدث في عمان لمصلحتها
ولا بد من أجل فهم الديناميكيات بشكل كامل أيضا الإشارة إلى وجود أطراف خارجية تتابع عن كثب ما يحصل في عمان وتحاول الاستفادة مما يحصل بحسب مصلحة ذلك الطرف أو حساباته أو مكاسبه، وهو بلا شك موضع مراقبة وتحليل من قبل بعض إدارات الدولة التي لديها من المعلومات والإحصائيات التي قد لا نعرف معظم تفاصيلها لكننا نستطيع تفكيكها وتحليلها من أجل فهم مخاوف الدولة وحساباتها المهمة التي لا يمكن تجاوزها بطبيعة الحال.
فهنالك جبهة إيرانية تريد تأجيج الساحة الأردنية بأي طريقة؛ فمن تنشيط التهريب للمخدرات على الحدود الشمالية إلى محاولة استثمارهم في المظاهرات واعتبارها فرصة ثمينة لهم لدس أفكارهم المسمومة داخل المجتمع الأردني ورغبة منهم "بتصدير ثورتهم" بطريقتهم الخاصة أو تجيير هذه الأفعال لصالحهم، حينها نفهم لماذا يُغرد بعضهم من إيران أو تركيا برغبته في تسليح 12 ألف مقاتل من المقاومة الإسلامية في الأردن من أجل تحرير فلسطين! ونفهم لماذا يشير البعض الآخر كذلك إلى أن طريق القدس يمر من عمان، في تذكير بشعارات خسيسة لفظها التاريخ! وذلك بلا شك رغبة في زرع بذور الفتنة في هذه الأرض السياسية الخصبة.
بالإضافة إلى وجود تيار صهيوني يؤمن بفلسفة الاستثمار بالفوضى في الأردن ويعتبر أن تأجيج نيران الفتنة يصب في صالح قضية التهجير وحل القضية الفلسطينية باستخدام نظرية "الترانسفير" القسري أو الناعم، مما جعل بعض مراكز القوى يجير هذه الأقوال والتصريحات للتخويف من استغلال "ساحة عمان" من قبل الفصائل الخارجية، وهو الأمر الذي دفع بعض الكتاب المتحمسين كذلك للحديث بلهجة خشنة والمطالبة بسحب الجنسية ممن يفعل ذلك! وباتوا كأنهم يريدون إعادة تعريف من هو الأردني بعد أن دخلنا في المئوية الثانية من عمر الدولة.
ثمة تيار باعتقادي يريد أن يثبت نظريته بأي طريقة كانت؛ فتم تحويل كل هذه المخاوف إلى عداء واستعداء للحركة الإسلامية التي وجدوها كبش فداء لأفكارهم وتوقعاتهم ونظريتهم ورغبتهم في التراجع عن ملف الإصلاح أو التحديث؟ حتى لو كان ثمن ذلك إطلاق العنان لكتبة المقالات في جميع الزوايا والأعمدة لكي ينالوا من الوحدة الوطنية الأصيلة وأن يحاولوا بطرق غير أخلاقية أحيانا إعادة المجتمع الأردني سبعة عقود إلى الخلف باتجاه لحظة تاريخية وأزمة سياسية تجاوزها الأردن بكل اقتدار، فكيف يُسمح لهم بذلك؟ وكيف يتناسى صانع ومدبر هذا القرار بأن هذه "الهجمة المرتدة المُصنعّة" وهذا التأجيج والاستحضار للماضي أخطر على الأردن ونسيجه من مضار مسيرة هنا أو مظاهرة هناك؟ كيف يُسمح لشخص في مؤسسة تشريعية "مجلس الأعيان" أن يُسمي ما يحصل في تجمع ومظاهرات بالقرب من سفارة الكيان ويطلق عليها "غزوة الكالوتي" وأن ينشر مقالته في موقع إلكتروني معروف واصفا بعض المتظاهرين بالعملاء والمندسين والخون؟ وكيف يبقى هذا الشخص دون محاسبة أو مراجعة وهو في "مجلس الملك" الذي يجب أن يتمتع أعضاؤه بالفطنة والذكاء والرشد التي تكفي لترشيد الخطاب لا تأزيمه، وتقديم المشورة المُخلصة لا المشورة المفُلسة! ومن هو الخطير على أمن الدولة حينها؟
اقرأ المزيد.. جامعة العلوم الإسلامية بين المكشوف والمسقوف
هتافات المتظاهرين للمقاومة تعبر عن مشاعرهم الصادقة
غير أنه من المهم أن تدرك بعض إدارات الدولة أن من خرج للمشاركة في المسيرات لا تعنيه كل تلك الحسابات باعتقادي ولم ينطلقوا نتيجة نداء من تنظيم أو فصيل في عاصمة أجنبية، وأن الذي أخرجهم هو مشاعرهم التي تمزقت وقلوبهم التي انفطرت من هول المشاهد التي يرونها كل يوم وكذلك على وقع الحزن والعجز والشعور بعدم القدرة على فعل شيء سوى المشاركة في المسيرة، وأن الجموع التي خرجت وهتفت للمقاومة وأشخاصها يهتفون لأن الهتاف يعبر عن مشاعرهم الصادقة التي لا يمتلكون غيرها، فهو حدث تعاطفي أولا ويجب على الدولة أن تفهم الهتافات في سياقها الصحيح، وأن تتفهم اللغة التي يتحدث بها الناس في تجمعاتهم ومسيراتهم، فالخطب جلل والحدث خطير وغير مسبوق والجرح نازف في كل بلدة وفي كل حارة وفي كل مخيم وفي كل محافظة في الأردن؛ كجرحنا في غزة، فارتباطنا الوجداني والأخلاقي والنفسي بما يجري في فلسطين لا يمكن "فك ارتباطه".
لا يمكن تحميل الناس جريرة هتاف سيئ أو غير منضبط كان قد صدر من أحد الأشخاص، أو أن يتحمل الناس كلهم جريرة كلمة غير لائقة كان قد أسمعها متظاهر أو متظاهرة لأحد أفراد الأمن العام، فالأخطاء الفردية المعدودة لا يمكن لها أن تجعل الدولة تهتز وتنفعل بهذه الطريقة، ومن غير المعقول استغلال التصريحات الخارجية سواء أكانت من دول أو منظمات أو أشخاص أو فصائل وتحميل الناس كذلك جريرة هذه التصريحات أو أن يحمل الناس وزر تخوفات دول في الإقليم من تصاعد وتيرة حركات الإسلام السياسي!
كما لا يمكن في الوقت ذاته لشعار أو هتاف أن يجعل الدولة تتحرك بقضها وقضيضها وكتّابها وافتتاحيات صحفها وإعلامها المسموع والمرئي من أجل تخوين المسيرات ومن يشارك بها إلا إذا كانت هناك "مراقبة تربصية" بعين ساخطة تنتظر هفوة أو زلة حتى يتم تضخيمها وإعادة توجيهها لكي تخدم سردية أو رواية أو وجهة نظر معينة عند بعض إدارات الدولة.
اقرأ المزيد.. بين خطاب المعارضة وإكراهات الدولة
على "السياسي" أن يستفيد من قوة "الشعبي" في المفاوضات
وبالعودة إلى مقالات صديقنا الإعلامي الرواشدة التي بدأت ذات وتيرة معينة ثم انتهت إلى خلاصات خطيرة باعتقادي، حيث سأبدأ بنقاش فكرة رئيسية تلك المتعلقة بفلسفة الاحتلال وما الذي يفعله اعتمادا على إحصائيات وبيانات دقيقة، ثم سأحاول الإجابة عن بعض الأسئلة الحساسة الهامة التي تمت إثارتها تلك المتعلقة بتهور حماس في عمليتها أو أنها كانت فريسة لورطة محبوكة من إيران، أو في أحقية فصيل فلسطيني في أن يعلن ويشعل الحرب بهذه الطريقة وأن يعرض الشعب الفلسطيني بأكمله لهذا التوحش، ثم في الأثر الاقتصادي على اقتصاد الأردن نتيجة المقاطعة التي فُرضت علينا كما يقولون، وماذا استفادت غزة من المقاطعة أو من يوم الإضراب وغير ذلك من الأسئلة الهامة في المقالات القادمة من أجل إثراء الحوار والنقاش مع كاتب صحفي يحب الأردن ويحب فلسطين بلا شك.
يا خسارة؛ كان وما زال من الممكن أن تكون هذه المشاعر الجياشة في المسيرات والمظاهرات عند "الشعبي" نقطة قوة بحيث يستغلها "السياسي" بكل ذكاء في المفاوضات والحيل السياسية، فهي نقطة قوة تحديدا في موضوع الترابط المجتمعي الداخلي عند من يعقل؛ فالقضية الفلسطينية والمسيرات المرتبطة بها عابرة للعشائر والمحافظات والمخيمات والبوادي والقرى والمدن، عابرة لكل ذلك التحجيم والتقزيم ويمكن البناء عليها بشكل إيجابي لزيادة قوة ومناعة المجتمع، ونقطة قوة خارجية كذلك يستغلها السياسي بحنكة وفطنة ودهاء إذا أراد ذلك في مفاوضاته ومناوراته وتصريحاته.
بقي أن أشير وقبل أن أنهي مقالي الأول بأن هنالك بعض الأمراض الحساسة التي تصيب جسد الإنسان يكون سببها الرئيسي أن جهاز المناعة "المسؤول عن حماية الجسم" والحفاظ عليه من أي عارض داخلي أو خارجي يقوم أحيانا بمهاجمة خلايا الإنسان الداخلية دون وجود تفسير علمي دقيق لذلك السلوك! أحيانا بعض المؤسسات داخل الدولة والتي تكون مسؤولة عن الحفاظ على أمن واستقرار الدولة والمجتمع قد تهاجم هي ذاتها الدولة والمجتمع من الداخل وتسبب لهما أمراضا وأزمات قد يصعب الشفاء منها دون أن نعرف لماذا يحصل ذلك، والدولة والمجتمع كالإنسان؛ كلاهما يتألم حينما يُهاجم.
اقرأ المزيد.. عن الدولة الأردنية والنُخب