كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
الصحافة الاستقصائية في الغرب
بقلم غيث القضاة | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
قبل عدة سنوات قام سائق شاحنة في ولاية نيويورك الأمريكية بدهس عدة أشخاص بعد أن ارتطم بعدة سيارات وحطمها، حيث خرجت شاحنته عن السيطرة بعد أن كان يقود بسرعة عالية، وأدى إلى خسائر مادية كبيرة وتعطيل حركة السير لفترة طويلة، ناهيك عن عمليات الإطفاء للحرائق وعمليات إنقاذ وإسعاف المصابين الواسعة التي قامت بها الولاية هناك، لكن الحادث لفت انتباه الصحافة كثيرا، خصوصا بعد أن تبين في التحقيقات الأولية أن السائق هو من المهاجرين الأفغان ويقود الشاحنة بدون رخصة تؤهله لذلك أو كانت رخصته منتهية حينها ولا تخوله القيادة.
يعتبر هذا الفعل في أمريكا من الأمور الصعبة والتي يتحمل فيها الشخص تبعات قضائية ومالية كبيرة جدا، فكيف تجرأ هذه السائق على هذه الفعلة؟ كان هذا السؤال هو الذي حير الصحافة والإعلام هناك كثيرا ولعدة أيام، ولأن حق الحصول على المعلومة مضمون وسهل استطاع الإعلام أن يحل اللغز ليكتشف أن هذا المهاجر يعمل مع جهاز فدرالي خاص ويمتلك سلطة تخوله أن يقود الشاحنة دون رخصة، حيث كان يعمل (كمخبر) عند هذه الجهة لإيصال أخبار وتحركات جاليته التي يتعامل معها بشكل يومي، فقامت الصحافة ولم تقعد حينها ووجهوا اللوم والنقد الشديدين لذلك الجهاز وسلطته غير المحدودة، تم بعدها محاسبة المسؤولين والتحقيق معهم.
"حق الحصول على المعلومة"
فكرة حق الحصول على المعلومة فكرة أصيلة تم تطبيقها في الغرب منذ عام 1946 بعد أن صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوصها، ويعتبر من القرارات الهامة الذي اعتبرته الأمم المتحدة المحك الرئيسي لجميع الحقوق التي كرست نفسها للدفاع عنها، وقام الأردن بالمناسبة بإقرار قانون حق الحصول على المعلومة في عام 2007 وتم اعتباره حقا قانونيا، والتي تم فيه تعريف (المعلومة) "أي بيانات شفوية أو مكتوبة أو سجلات أو إحصاءات أو وثائق مكتوبة أو مصورة أو مسجلة أو مخزنة إلكترونيا أو بأي طريقة وتقع تحت إدارة المسؤول أو ولايته".
هل هو من ضروب الترف؟!
يعتبر حق الحصول على المعلومة كذلك وسيلة من وسائل مكافحة الفساد وتوفير الرقابة وتوفير الوعي وإمكانية المحاسبة عند حدوث أي خلل أو خطأ في التنفيذ أو أي سوء لاستخدام السلطة، لكن المشرع الأردني وضع بعض القيود على هذا الحق، لضرورة الحفاظ على أمن وسلامة المملكة والمواطن وهو الأمر المعقول والمفهوم؛ ويمكن النظر إلى تطبيق هذا القيد باتجاهين فإما أن يكون التطبيق سلبيا أو إيجابيا، لكن هذا المبدأ يستلزم دائما مبدأ الإفصاح الاستباقي (النشر الإلزامي) عن المعلومات المتاحة كترويج وتشجيع لثقافة الشفافية والمحاسبة، بيد أن المُشرع الأردني توسع كثيرا في الاستثناءات التي قيدت التطبيق وأخرجته عن مقاصده أحيانا، وذوبت محتوى بعض نصوصه فأفقدته القوة والتأثير بكل أسف.
استعادة الثقة بالتعاون الشفاف مع الإعلام
لا يستطيع أحد أن ينكر أن جدار الثقة بين الدولة والناس قد (انهدم) خلال فترتين مهمتين، فترة ما قبل الربيع العربي التي سادها تفعيل الأحكام العُرفية لعقود طويلة وما سادها من ظلم وتعسف في استخدام الحق بشكل عام، وفترة الربيع العربي وما بعده التي سادها التشكيك وعدم الثقة بكل مؤسسات الدولة ذلك بعد أن اطلع الناس على العديد من الحقائق والخفايا من قضايا فساد وتنفع وعبث في المال العام فارتفع منسوب الوعي والحذر لديهم، لكن بكل أسف رافق ذلك ارتفاع منسوب التشكيك وعدم الثقة بمعظم تصرفات الحكومات المختلفة، وأعتقد أن على الدولة مسؤولية كبيرة في إعادة بناء جدار الثقة شيئا فشيئا، وقد يكون من طُرقها مساعدة الصحافة والإعلام في توثيق رواية الدولة وتأكيدها من خلال تفعيل مبدأ حق الحصول على المعلومة بكل شفافية، لكي يقوم الإعلام بالتحقق والتأكد من خلال وسائله وطرقه الخاصة، وليس في ذلك أي انتقاص من هيبة الدولة بل هو تعزيز لسلطة الدولة وهيبتها وهو تطبيق تُمارسه معظم الدول المتقدمة وتتشارك فيه السلطة الإعلامية المسؤولية مع السلطات الأخرى.
أخيرا، يستطيع الواحد فينا أن يجد تفسيرا لحالة التشكيك التي أصبحت سائدة في كل رواية تقدمها الحكومات لأي قصة مهما كانت صغير أو كبيرة (قصة ذهب عجلون مثلا التي شاهد الناس فيها وسمع عبر الشاشات الرسمية ثلاث روايات متضاربة للدولة)، لكن ذلك يجب أن لا يُعتبر كتبرير لدوام الاتهام أو دوام التشكيك بالأجهزة وعملها؛ فهي بلا شك تعمل بإخلاص وبجد، ومصلحة الأردن تتقدم على كل مصلحة لديهم لدى معظم منتسبيها كما نعلمُ ونتأملُ دائما، فرأسُ المال الحقيقي عند تعاملنا مع الدولة هو (الثقة)، فاذا انعدمت وانهدمت انهدم معها كل شيء، وتتحمل الدولة هنا مسؤولية كبيرة في سبيل تعزيز هذه المنظومة.
التشاركية
بقي أن أشير أنه لا يكفي أن تقوم الحكومة وأجهزتها بتمرير معلومة معينة مجزوأة إلى صحفي ما عن حادثة معينة أو إلى إعلامي معين ليستخدمها عبر صحيفته أو موقعه بالطريقة التي يراها مناسبة، بل يجب أن تتشارك الحكومة مع الإعلام لدفعهم لـتأكيد وتوثيق رواية الدولة خصوما في الأحداث والقضايا الهامة التي يُثار حولها جدل كبير.