عدوى السلبية والعدمية في المجتمعات

الصورة

بقلم: غيث القضاة

المصدر
آخر تحديث

في تجربة علمية فريدة وصادمة أجرتها في عام 2004 جامعة "إيموري" وهي جامعة بحثية  خاصة في مدينة أطلنطا بولاية جورجيا الأمريكية، وذلك للتحقق من كيفية قدرة الناس على تكوين الآراء وإصدار الأحكام بشأن القضايا السياسية الساخنة المتعلقة بكفاءة وصدق قادة الحزبين الرئيسين في أمريكا، حيث اتضح في نهاية التجربة أن أنصار كلا الحزبين يُصرون على المعلومات والقرارات المُسبقة التي لديهم حتى وإن ظهرت لديهم حقائق دامغة تقول بعكس ما لديهم من معلومات وحقائق!

سلط البحث -بطريقة علمية فريدة- الضوء على سبب قدرة الديمقراطيين والجمهوريين المخلصين لأحزابهم على سماع نفس المعلومات والحقائق، لكنهم يُكونون استنتاجات معاكسة تماما لبعضهم وتحيزهم غير المعقول لما يريدون من معلومات وأخبار!

التجربة كانت علمية بحتة ودقيقة تمت على مرحلتين:

المرحلة الأولى

في المرحلة الأولى أتوا بفريق مؤيّد تماما للحزب الجمهوري وفريق مؤيّد تماما للحزب الديمقراطي، وقاموا بوضع هؤلاء الأشخاص تحت التصوير بالرنين المغناطيسي لمراقبة عمل أدمغتهم بواسطة جهاز (fMRI)، ثمّ قدّموا للفريق المؤيّد للحزب الجمهوري تصريحات واضحة ومُسجلة بالفيديو لمرشحهم حينها "جورج بوش" وكانت كلّ التصريحات التي تمّ اختيارها متناقضة مع بعضها تماما، حيث يقول "بوش" الشيء ونقيضه تماما ويتضح في عباراته المتعددة التلاعب والكذب والتدليس.

وفعلوا نفس الشيء مع الفريق المؤيد للحزب الديمقراطي وعرضوا عليه بعض المقاطع الكلامية للمرشح الرئاسي حينها "جون كيري" بنفس الطريقة والأسلوب.

لاحظ العلماء ملاحظة غريبة جدا في أدمغة المتعاطفين مع كل حزب أثناء مشاهدة وسماع المقاطع، وهي أنّ الأجزاء الخاصة بالنقد والإدراك والقدرة على تقويم المسائل في أدمغة الفريق المؤيّد لم تنشط إطلاقا أثناء البث بل ظلّت ساكنة ولم تتحرك، ونشطت فقط الأجزاء الخاصة بالعواطف والمشاعر والأحاسيس، أي أنّهم لم ينتبهوا إطلاقا إلى الأكاذيب المتعددة والتناقضات الواضحة التي قالها رئيس حزبهم! وإن انتبهوا فإنهم غالبا وجدوا التبريرات بينهم وبين أنفسهم، وظلوا مؤيدين له عاطفيا وشعوريا!

المرحلة الثانية

ثم قام العلماء في المرحلة الثانية بعكس العملية، حيث جاؤوا بالفريق المؤيد للحزب الديمقراطي وعرضوا عليه تصريحات رئيس الحزب الجمهوري المتناقضة والكاذبة، فنشطت في أدمغتهم مباشرة الأجزاء الخاصة بالإدراك والتقويم والنقد وانتبهوا إلى كلّ التناقضات الموجودة في تصريحات خصمهم! وحدث تماما نفس الشيء مع الفريق الآخر الذي انتبه لتناقضات الخصم، في ظاهرة غريبة جعلت العلماء يتأكدون بأن الإنسان لديه القدرة اللاشعورية على تغييب عقله إذا اقتنع عاطفيا بأية قضية وصدقها حتى لو كانت كاذبة ووهمية!

أشارت النتائج بكل وضوح إلى أن العمليات التي تُحركها العاطفة والتي تؤدي إلى أحكام مُتحيزة تحدث على الأرجح خارج نطاق الوعي، وتختلف عن عمليات التفكير العادية عندما لا تكون العاطفة منخرطة بشدة، وأنه يمكن للجميع من مختلف طبقات المجتمع، التفكير في إصدار أحكام متحيزة عاطفيًا عندما يكون لديهم مصلحة خاصة في كيفية تفسير الحقائق.

ما تفسير السلبية التي تعتري مجتمعنا بناء على الدراسة؟!

ذكرتُ هذه الدراسة لكي أفسر فيها بعض السلبية التي باتت تعتري مجتمعنا، فبتنا لا نكادُ نرى شيئا إيجابيا، وإذا رأيناه بأمِ أعيننا فإننا نعود إلى قواعدنا النفسية العاطفية التي تجبرنا على ما يبدو ألا نُصدق شيئا إيجابيا مما نراه، وبتنا كذلك لا نؤمن بأي خطوة في سبيل الإصلاح في هذا الوطن، وباتت معظم صفحاتنا في وسائل التواصل لا تقع إلا على الأخبار السوداء القاتمة التي نتسابق جميعا على نشرها حتى لو كانت كاذبة، ويبدو أن الجميع قد أُرهق نفسيا وأصبح خطاب العقل والإدراك مدفونا في نفوسنا ونبذناه جانبا وأصبحت التهمة جاهزة لمن أراد التفاؤل أو يستبشر خيراً!

هل نحن معذورون في طريقة تفكيرنا السلبية؟

كنت أتساءلُ لو أُجريت نفس هذه التجربة العلمية المُتقدمة على عقول الأردنيين، وتم عرض الأمثلة بطريقة مختلفة، وتم استعراض التصريحات الرسمية القديمة والحديثة والقصص والحكايا المتعلقة بالإصلاح والتغيير أمام المُشاركين، فماذا ستكون النتيجة؟ هل هذه التجربة تستطيع تفسير حالة الإحباط واليأس والسلبية التي يعاني منها المجتمع والقادة والنُخب؟ هل نحن معذورون في طريقة تفكيرنا السلبية التي وصلنا لها بفعل الإحباط السياسي وقصص الفساد وملفاته التي أرهقتنا وأدخلتنا الأزمات تلو الأخرى؟ أم نحن قد تحيّزنا إلى السلبية والعدمية وانتشرت بيننا كالعدوى التي لا فكاك منها برغم أنفنا؟

فرصة جديدة.. لأنفسنا والوطن

هل في هذه التجربة دعوة صريحة لنا جميعا أن نتوقف قليلا ونُعيد النظر في طريقة تفكيرنا السلبية التي باتت تطغى على كل أفعالنا وقراراتنا ونظرتنا المتشائمة للأمور، وأنه آن الأوان أن نعطي أنفسنا وأن نعطي الوطن فرصة جديدة؟ أليس من حقنا أن نرتاح قليلا ونحلم ببعض التغيير الإيجابي المنشود، أليس من حقنا أن نستبشر خيرًا بتوصيات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية وتقدير الجهد الذي بُذل من أعضائها في سبيل التقدم نحو الإصلاح مهما كان بطيئا أو دون الطموح؟! أليس من حقنا أن نفرح ونستبشر بالخير القادم وألا نُعطل التاريخ عند العديد من تجاربنا السياسية السابقة الفاشلة؟!

ختاما أليست هذه الدراسة دليلا على مشكلةٍ نفسية قد تورطنا بها دون أن ندري، وأنه قد أصابنا من السلبية والعدمية الشيء الكثير دون أن نُدرك ذلك؟ أليست هذه دعوة لنا أن نتنفس الهواء النقي قليلا ونعيد بعض حساباتنا لكي نبدأ من جديد بطاقة إيجابية برغم تجاربنا القاسية السابقة؟

الأكثر قراءة
00:00:00