عقلية الحصمة وأحزاب المنظومة

الصورة
غيث هاني القضاة
غيث هاني القضاة

بقلم: غيث هاني القضاة

آخر تحديث

يبدو أن حالة التدافع السياسي بين قوى التغيير وقوى الجمود ستطول، وستشهد سجالات سياسية كثيرة يستخدم فيها الطرف الأقوى أمنيا وسياسيا جميع وسائله المتاحة وبكل ما أوتي من عزم وقوة، ساعيا إلى قتل الطموح بأي أملٍ سياسي قادم مهما كان متواضعا؛ حيث تستطيع قوى الجمود والتكلس أن تتخذ قرارا يعلو فوق قرارات الدولة جميعا وكأن شعارهم يقول (كل السُلطة للسُلطة) وأن تُطبق وتُجرب على أرض الواقع ما شاءت من أفكار لامتلاكها وسائل القوة ومراكز التأثير المهمة والحساسة وسطوة القرار، غير عابئة بأي بُعد سياسي أو استراتيجي قد يؤثر سلبا على مسيرة الوطن، وهذا بلا شك سببه عدم وجود رؤية وخطة واضحة للدولة، بحيث يتم من خلالها تنسيق وجهة النظر الأمنية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها لتخدم فكرة مركزية واحدة تتبناها بالإضافة إلى النفوذ الواسع التي تمتلكه؛ فحينها تُدار الأمور (بالقطعة) ويتلذذُ صاحب القرار الأقوى بتطبيق رؤيته وفرض سياسته وتجريب أفكاره الرديئة مهما كانت النتائج.

عقلية الحصمة.. مزيد من الاحتقان

لا تستطيع قوى الجمود والتكلس أن تدرك أنها تساهم مساهمة مباشرة في تنامي الاحتقان الشعبي وزيادة جرعة الغضب (المتراكمة) عند الناس، والمساهمة بطريقة غبية في تثوير الناس وتعجيل اللحظات الحاسمة في عمر الشعوب، والتي ينفجر فيها الناس فجأة ودون سابق إنذار، ولا يبالون حينها في أي شيء يخسرونه، وإلا ما الذي يدفع الدولة إلى إغلاق المساجد بعد صلاة الفجر عندما شعروا أن الناس سيتضامنون مع أحداث الأقصى الأخيرة تضامنا سلميا وذلك بتجمعهم بعد الصلاة في المسجد؟ وما الذي يدفعهم لإغلاق ساحة المسجد (بالحصمة) لمنع وقفة تضامنية للمصلين؟ وما الذي يدفعهم كذلك إلى البدء بهندسة الانتخابات القادمة عبر ترتيب ترخيص بعض الأحزاب الجديدة (أحزاب المنظومة) والتي ستكون تحت إمرتهم في المرحلة القادمة يواجهون بها الأحزاب الحقيقية؟ ما الذي يدفعهم إلى ذلك سوى قصر النظر وقلة الخبرة الاستراتيجية والشهوة العارمة للسلطة والسيطرة لديهم، وسوء التقدير ورداءة أفكارهم، وغير أنهم يعانون من أزمة حقيقية في عقلهم السياسي!

في كتابه الشهير (من بلاط الشاه إلى سجون الثورة) والذي وثق فيه مؤلفه المثقف والأديب وعالم الاجتماع (إحسان نراغي) لقاءاته الصحفية مع شاه إيران في قصوره، والتي أراد منها تبيان الحقائق له والانتقادات والتحذيرات التي يجهلها، وكان هذا في الفترة التي كانت إرهاصات الثورة ظاهرة بوضوح لكل صاحب عقل سياسي نتيجة تعنُت الأجهزة الأمنية هناك واستخدامها لسطوتها وسلطتها لتمرير أفكارها والتي أسقطت الشاه في نهاية المطاف، استطاع المؤلف من خلال أحاديثه مع الشاه أن يقنعه بالعيوب الواضحة وفساد الذين أحاطوا به، أولئك الذين كان لهم مطلق السلطة والعبث بالوطن كما يشاؤون، في الوقت الذي كان الشاه يشعر أنه لا يوجد خطر داخلي من شعبه اعتمادا على التقارير الأمنية! حيث سأل الشاه سؤالا لهذا المثقف عن مصدر العصيان الذي كان غريبا عليه وعن شوقه لمعرفة من هو المُحرض خلفه؟ ومن يدير المُعارضة؟ ومن أطلق هذا الغضب الشعبي الكبير؟ فأجابه بوضوح (أنت نفسك يا جلالة الملك من فعل ذلك) فلقد أقصيت الأخيار عن محور قراراتك، ووثقت في فريق ضئيل جعلته يسيطر بمساندة الأجهزة الأمنية على كافة مفاصل الدولة؛ فازداد فسادهم وتسلطهم وازداد معه الاحتقان وارتفع الغضب وانفجر الناس في لحظة الحسم.

كان الشاه حينها يسألُ المؤلف بحُرقة وحسرة؛ أنت عالمُ اجتماع ويمكنك تحليل تصرف الناس، هل تستطيع أن تقول لي لماذا يهتفون (الموت للشاه)! ماذا فعلتُ لهم وقدمتُ لأحصل على هذه النتيجة؟ فأجابه: لأننا نعيش يا مولاي في مجتمع هرمي مُحكم حيث كل شيء يؤول إلى قمة الهرم، فأولئك الذين كانوا ينصحون ويُرددون بصدق بأن على الملك أن يتربع على العرش دون أن يحكم (بمعنى أن الملك يملك ولا يحكم، والسلطة الحقيقية للشعب)، كانوا يستشعرون أننا ذاهبون إلى أزمة مستفحلة، دون أن يستمع لرأيهم أحد بل تم تجريفهم سياسيا، وها هي الأزمة قائمة فعلا الآن، كان هذا الصحفي حينها ينصح الملك باتخاذ قرارات جذرية وليس الاكتفاء بإعلان خطوات صغيرة لاستدراك الأمور، لكنه لم يفعل وبقي يثق في أجهزته الأمنية وحاشيته المهترئة حتى اللحظة الأخيرة، وتسلطت الأجهزة التي كان يقودها قِصار النظر وجُهال المعرفة بالسياسة والتاريخ، فكانت آخر عبارة قالها الملك لهذا الصحفي في لقائهما الأخير: لماذا لم تأتني قبل الآن؟ لماذا لم تأت حين كنتُ في أمسّ الحاجة لمن يجعلني مدركا للحقائق؟ فما كان منه إلا أن أجاب: لأنك فضّلت طويلا يا صاحب الجلالة الاستماع لهؤلاء الذي يبدعون في إخفاء الحقائق دائما.

همسة في أذن المعارضة

وهنا لا بد من همسة في أذن المعارضة التي يجب أن تدرك أنها أمام خصم سياسي وأمني عنيد يمتلك وسائل قوية ومؤثرة ومؤسسات هامة وعمق ووجود تاريخي لا يُنافس، وعليها أن تمتلك ذكاء حادًا تعمل بموجبه؛ بحيث لا تساعد فيه الأجهزة على رص صفوفها وشرعنه استخدام القوة والقمع ضدها، وأن تدرك المعارضة كذلك أن حقيقة التدافع السياسي مع قوى الجمود هذه هو (صراع تنافسي) وليس (صراع صفري)؛ فالسياسة ليست كلعبة النرد التي تعتمد على الحظ، بل هي كلعبة الشطرنج التي تعتمد على الذكاء والاستعداد التام والإلمام الجيد بقواعد اللعبة والإدراك التام لموازين القوى، فالمعارض الذكي قد يؤجل معركة مع طرف ويتحالف مع طرف آخر مؤقتا ويقبل بواقع سياسي معين وفي طموحه هدف آخر لتحقيقه، والمعارض الذكي يُدقق النظر في أدائه وخطابه السياسي وفي ألفاظه الانفعالية التي قد تسيء إليه من حيث ظن أنه يُنفس الغضب الشعبي أو احتقانه النفسي، والمعارض النبيه لا يُلبي رغبات بعض (المراهقين السياسيين) أو طارئي السياسة، فصاحبُ الحق لن ينتصر إذا لم يدرك المعادلة وافتقد الأدوات السياسية الذكية في هذا التدافع، وهذا باعتقادي ما تفتقده المعارضة لدينا إلى حد كبير.  

المقاربات الأمنية أثبتت فشلها

ومما لا شك فيه ولا جدال أن المُقاربات الأمنية لن تنجح وثبت فشلها في العالم أجمع، وهي تفعل فقط شيئا واحدا مُهما؛ زيادة منسوب الحقد وارتفاع نسبة الغضب والحَنَق الشعبي الذي يعيش في وجدان المواطنين ويكبر معهم لينتظر اللحظة الحاسمة ليستجمع ذلك الغضب كوقود في التعبير عن رفضه وغضبه، وليعيد صياغة الآلام وتوجيهها باتجاه قوى الفساد والجمود والتسلط تلك التي رافقت سنوات ضعفه، ليستخدم قوة الدفع هذه كسلاح وحيد لرفض وإسقاط التسلط والفردانية.

يا أصحاب عقلية الحصمة وعقلية هندسة الانتخابات، هذا الوطن يستحق منا الشيء الكثير ويجب أن نحافظ عليه بكل ما أوتينا من قوة، سلطوا أجهزتكم ووسائلكم وأموالكم وأفكاركم وجهودكم على محاربة الفساد وتحسين الأداء الإداري في الدولة وانهضوا بالوطن، واستفيدوا من التجارب السياسية القريبة والبعيدة ولا تعيدوا تجارب من سبقكم فأنتم لستم استثناء من التجارب التاريخية الماثلة أمامكم.

الأكثر قراءة
00:00:00