كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
ليبراليون وعلمانيون وإسلاميون
المتطرفون من العلمانيين يعتبرون أن هنالك مشكلة حقيقية في بعض النصوص الدينية وفهمها وتطبيقها، وبالتالي لديهم خصومة شديدة مع الإسلاميين، ويجب تجفيف منابعهم أو استئصالهم بأية طريقة كانت! ضاربين بعرض الحائط كل قيم الديمقراطية والحداثة والتقدم التي يُنادون بها ويسعون إلى تطبيقها، ويجب ألا ننسى أيضا أن هنالك تياراً معتدلا من العلمانيين يتعامل مع الدين كظاهرة موجودة يمكن التعايش معها والتفاهم معها على قواسم مشتركة، لكن لديهم تحفظات مفهومة ومخاوف مُبررة من أن تؤدي سيطرة التيار الديني إلى سُلطة دينية في الدولة بالمعنى السلبي، كما في بعض الدول التي تجعل السياسة مُسيطرة على الخطاب الديني، وبالتالي تجعل الدين مطواعًا لرأي الحاكم، أو تلك الدول التي تجعل الدين مُسيطراً على الرأي السياسي، كما في فكرة ولاية الفقيه، وبالتالي قد يهدد ذلك بعضا من القيم التي يدافعون عنها كالحرية والمساواة وغيرها، وهو الأمر الذي لا نختلف معهم حوله.
العلمانيون ليسوا فصيلا واحدا، ولا تعني العلمانية فصل الدين عن الدولة –فهذا تعريف قاصر وساذج كما يقول المفكر عبد الوهاب المسيري- لأنه يحصر العلمانية في المجالات السياسية والاقتصادية للدولة فقط، لكن العلمانية الخطيرة هي التي ظهرت في فرنسا، كتمرد على سلطة الكنيسة في بادىء الأمر، والتي تحولت بكل أسف إلى فصل جميع المُطلقات الأخلاقية والمعرفية للإنسان عن الدنيا، بحيث تصبح جميع الأمور نسبية، وتكون مرجعية الإنسان في جميع شؤونه لنفسه لا سُلطة للدين عليه فيها، وبالتالي فصل الإنسان عن أي مطلقات أخلاقية أو إنسانية، ومما يؤسف كذلك ذلك السجل غير المُشرف للعلمانيين العرب في دولهم العربية والتي رفعوا فيها شعارات تحديث المجتمع، لجعله في مصاف الدول المتقدمة، وأشبعوا الناس بشعاراتهم "العميقة" كما في المثال التونسي، لكنهم تحكموا في الدين هناك، واعتبروا أن كل مخالف لهم ظلامي لا بد من إقصائه وقمعه وسجنه! وتم كذلك تأميم المجتمع هناك، والسيطرة عليه أمنيا وسياسيا ودينيا، ولم يتحقق شيء مما وعدوا الناس به ووقفوا بكل بأس وقوة أمام أحلام الناس والجماهير في التقدم والحرية والازدهار، فمزّقوا الإنسان ومزقوا المجتمع.
في المقابل يعتقد الليبراليون أنهم يمتلكون الحقيقة دائما، وأنهم يمتلكون المفاتيح السحرية للتقدم والازدهار، والمشكلة الحقيقية معهم تكمن في أنهم يحاولون استنساخ الخطاب الغربي، والذي نقطة الارتكاز الرئيسة فيه هي العداء للدين مهما كان هذا الدين وجذره، وهم لا يعلمون أن هذا الخطاب لا يصلح في عالمنا العربي والإسلامي، فهذا الخطاب يتناقض مع تركيبة المجتمع الأساسية، ويجب أن يعترفوا كذلك بأن تركيبة مجتمعاتنا تختلف اختلافا كليا عن تركيبة المجتمعات الغربية، لكن بكل أسف احتكر الليبراليون في دولنا العربية الثروة والسلطة والثقافة والإعلام، وقدموا نماذج مخزية من الفساد الإداري والمالي والسياسي والتشريعي والأمني، واستولوا على معظم النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني باسم محاربة التطرف ومحاربة الدين، وأفلست معظم مشاريعهم التنموية وخططهم الخمسية وغرقت البلاد العربية بالديون بسببهم، وأصبحنا ذيلا من ذيول الدول الكبرى وفي قاع الأمم.
في الوقت ذاته هنالك حساسية شديدة عند نُخب وجماهير الإسلاميين من العلمانيين والليبراليين، وهي حساسية يمكن فهمها وتفسيرها في سياقاتها التاريخية، عندما تعرّض الإسلاميون في بعض الدول للقمع والإقصاء والتهميش على أيدي مُدعي الحداثة والتقدم! لكن لا يمكن في نفس الوقت و بأي حال من الأحوال تبرير التطرف في الأخذ والرد والتفاعل مع القضايا المختلفة وجعل ذلك تكئة للفجور في الخصومة، حيث لا بد من التعامل بحكمة عند الخلاف والاختلاف دفاعا عن صحة المجتمع النفسية ودفاعا عن مشروعنا الوطني الذي نأمل أن ينجح، فلا يمكن القبول بأي حال من الأحوال بالألفاظ البذيئة وعبارات الشتم والتخوين التي ملأت فضاءنا الإعلامي، والتي بكل أسف تقودها "نُخب فكرية"، وفي ذات السياق ليس لأي طرف أن يدعو إلى السخرية من شعائر الإسلام مهما اتفق معها أو اختلف، وعلى الدولة أن تمنع ذلك وأن تقف سدا منيعا في وجه من يحاول ذلك من قريب أو من بعيد.
من الخطير الاستسلام للانفعال والغضب والنزق عند الحديث في الشأن العام، وهذا بلا شك سيحجب الرؤية ويذهب صواب العقل ورجاحته، ومن الخطير كذلك عدم الاعتراف بشرعية الآخر المخالف لك في فكرك ومعتقدك ومنظومتك الأخلاقية، ومن المؤسف استخدام القوى الشعبية من مختلف المشارب الفكرية كوقود في هذه الحرب الإعلامية دون فائدة أو جدوى، فالاختلاف لا مفر منه داخل المجتمعات والشعوب، ويبقى السؤال الرئيس، كيف ندير هذا الاختلاف ونستوعبه ونستفيد منه ونجعله نقطة قوة لا ضعف؟ ولا بد من التأكيد كذلك في خضم هذه الفوضى الإعلامية على أن الصوت "الأعلى" لا يعني دائما أن يكون هو الصوت "الأصح"، وأن طوق النجاة الوحيد لمجتمعنا هو في الحوار الهادىء المتزن بين المعتدلين لفظا وقولا وفكراً.
ختاماً وتحديدا حول اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وما يدور حول شخوصها ورئيسها من قول ولغط، باعتقادي أن هذه اللجنة تكاد أن تنجح نسبيا، ونكاد أن نقطف ثمارها السياسية، ولديها مشروع واضح المعالم كان قد وضع معالمه جلالة الملك قبل تشكيلها، ونحن نقترب من بصيص أمل في أن تكون الانتخابات القادمة بقائمة نسبية على أساس ثلث مقاعد المجلس، وكذلك نقترب من تفعيل "نسبي" لدور الأحزاب التي يزيد عدد أعضائها عن 1200 عضوا على طريق التوازن في المُنطلق الدستوري الذي يوازي بين جناحي الدستور النيابي والملكي، وذلك بغض النظر عن قناعتنا ورأينا باللجنة وأعضائها وخلفياتهم الحزبية والفكرية والسياسية، لكن يبدو أن هنالك فئة استشعرت خطر هذا الإصلاح الجزئي واستكثروا علينا ذلك! فباتت تستخدم أسلحتها ونيرانها المختلفة وقراءتها التربُصية لكتابات أعضاء اللجنة من أجل وأد خطوة الإصلاح هذه بأي طريقة كانت.
نحن يعنينا من اللجنة فعلُها السياسي ونجاحه، ولا يعنينا إطلاقا الخلفية الفكرية أو العقائدية لأعضائها، مع التأكيد كما ذكرت على احترام المجتمع وأعرافه وتقاليده ودينه من قبل أعضاء اللجنة، فلا تكونوا وقودا في حرب لا تعرفون من يُديرها، وإذا بقيت بعض قوى الظلام تدير المشهد بهذه الطريقة وتهاجم أعضاء اللجنة بهذه الطريقة وتنبش في ماضيهم وكتاباتهم من أجل إسقاط مشروعنا السياسي "الخجول المتأخر"، فالكلام عن التقدم والإنجاز سيظل من قبيل التغني بالأفكار دون الوصول إلى إنجازات حقيقية على أرض الواقع.