كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
معتزلة الإخوان المسلمين
شاركتُ قبل يومين في مؤتمر إطلاق كتاب "الإسلاميون في الأردن، الدين والدولة والمجتمع" برعاية مؤسسة "فريدريش أيبرت الألمانية"، حيث تناول الكتاب مواضيع هامة تتعلق بتطورات الحالة الإسلامية في الأردن وتحولاتها في أعقاب الربيع العربي.
وكما أشار مؤلفو الكتاب، فهو يُمثل إعادة زيارة (Revisiting) لحقل الإسلام السياسي في الأردن ودراسة التجارب المختلفة المتعلقة به ومحاولة الاقتراب منهم بشكل أكبر، ودار نقاش حول استعمال مصطلح (الانشقاق) عن جماعة الإخوان المسلمين لتوصيف فعل الأحزاب التي تشكّلت نتيجة هذه الانشقاقات، وأرجو أن لا نختلف على المصطلح كثيرا، وأن نركز اهتمامنا على الديناميكيات الداخلية ودراسة وتقييم طبيعة النزاع الفكري الذي حصل.
معتزلة الإخوان الملسمين
وأستعير هنا مصطلح "معتزلة" الإخوان المسلمين مستحضرا القصة التراثية المتعلقة باعتزال الفقيه (واصل بن عطاء) مجلس شيخه الإمام الحسن البصري في بداية القرن الثاني الهجري، عندما اختلف معه في حكم مرتكب الكبيرة؛ هل هو كافر أم فاسق أم عاص، فاعتزل واصل مجلس شيخه، وأصبحت المعتزلة بعدها مذهبا فقهيا مُعتبرا، سيطر سياسيا على مفاصل الدولة العباسية رغم ظروف النشأة البسيطة في العدد؛ فلا قلة العدد تعني التقليل من شأن الذين اعتزلوا الإخوان، ولا مآلات اعتزالهم كذلك تدل على الضعف أو عدم النجاح المرتبط.
غير أنني أرى أن سؤالا مهما كان يجب أن يطرحه الكتاب؛ ذلك المتعلق بصحةِ إطلاق مصطلح (حركات ما بعد الإسلام السياسي) على حزبي زمزم والشراكة والإنقاذ في الأردن، وصحة إقحام هذا التوصيف عند تناول التجارب الخاصة بهم، خصوصا إذا استحضرنا أدبيات أوائل من قام بنحت المصطلح وصكّه الإيراني الأمريكي آصف بيات والفرنسي أوليفيه روا، اللذين أكدا في تعريفهما أن:
"حركات الإسلام السياسي هي تلك التي تتبنى مفهوم الدولة الإسلامية وتحاول تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال ممارستها الديمقراطية"
وهو الأمر البعيد كل البعد عن هذين الحزبين اللذين لم يشيرا من قريب أو بعيد في أدبياتهما إلى مسألة الدولة الإسلامية. وأميلُ حقيقة إلى عدم اعتبارهما شكلا من أشكال حركات الإسلام السياسي، لعدم انطباق حدود الوصف والتعريف عليهما، ولو أراد الباحث إجراء استفتاء بين أعضاء الحزبين وسؤالهم مباشرة فيما إذا كنتم تعتبرون أنفسكم صورة من صور الإسلام السياسي؟ لكانت الإجابة بالنفي عند معظمهم، دون أدنى شك.
حزبان انبثقا من نفس العباءة وسلكا طرقا مختلفة
ويتساءل كتاب "الإسلاميون في الأردن" بشكل أساسي عن الطريق السياسي الذي سلكه (الحزبان المعتزلان) عن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، ولماذا ذهب حزب الشراكة باتجاه التصعيد مع الدولة وذهب حزب زمزم باتجاه عدم الصِدام والتبريد، ولا يخفى على أحد أن فكرة حزب الشراكة بحد ذاتها وأدبيات الحزب كانت فكرة متقدمة وكانت أدبيات الخطاب السياسي تدل على وعي كبير فيما يتعلق بمفهوم الدولة والمواطنة وتلازم السلطة مع المسؤولية، والتحذير من عواقب الفساد الإداري والمالي، واستطاع الحزب أن يضم فسيفساء واسعة من إسلاميين وعسكريين وحراكيين ومستقلين، وقد كانت هذه بحد ذاتها بذور قوة داخل الحزب لكنها كانت بذور ضعف في ذات الوقت، وأدت باعتقادي إلى تعدد سقوف الخطابات السياسية داخل الحزب وعدم الانسجام الداخلي على صعيد الاتفاق على التكتيكات السياسية تلك المتعلقة بفهم طبيعة السلطة السياسية التي تم التعامل معها والمرتبطة بــ (جيوبلتك) مُعقد، كما أشار الكتاب، وامتلاكها وسائل ونفوذ وخبرات وقدرات لا يمكن لحزب ناشئ أن يُناكفها أو أن يقف موقف الخصومة معها بشكل علني وواضح كما فعل الحزب، وهو الأمر الذي أدى الى أن تتخذ السلطات بكل أسف قرارا بوقف الحزب مهما كلف الثمن.
من الملاحظات المهمة التي يجب الـتأكيد عليها أن حزب زمزم كان يمتلك خطابا سياسيا متقدما واعداً في أدبياته يكاد لا يختلف عن خطاب الشراكة، لكن زمزم وقعت، كما أشار الكتاب، في فخ (الدلال الرسمي)، ودفعت ثمنا غاليا تمثل في فقدانها شعبية هامة تتوق بطبيعة العواطف الجماهيرية إلى رفض هذا النوع من العلاقات الناعمة بين السلطة والمعارضة.
ووقعت زمزم - الإتلاف لاحقا - في فخ إداري خطير تمثل في طبيعة الصراع والخلاف الحاد بين "أصدقاء الأمس"، مما مزّق الحزب ومزّق الفكرة وأشعل الخلاف فيما بينهم، وحاولت الأجهزة التدخل بشكل واضح كما علمنا وحصلت ترتيبات "خيطية" بين مجموعة من الأشخاص وهو الأمر الذي عقّد المشهد وزاده غموضا وشكوكا، وانعكست نتائجه الكارثية في الانتخابات الأخيرة لحزب الائتلاف، وتمثل صداه في البيان الذي صدر عن مجموعة -أقرب ما تكون إلى تيار المؤسسين - باتت تعتبر أن قيادة الحزب تمارس فعلا لايتناسب مع مبادئ الحزب، فأدى ذلك باعتقادي إلى زعزعة موقف الحزب ومكانته وإمكانيته التأثير في المستقبل السياسي أو أن يلقى قبولا شعبيا.
تعديل الخطاب السياسي لحركة الإخوان المسلمين في الأردن
وتجدر الإشارة إلى أن جماعة الإخوان المسلمين (الأم) في الأردن هي الوحيدة التي يمكن اعتبارها حركة من حركات الإسلام السياسي باعتقادي، والتي تنطبق عليها حدود الوصف والتعريف.
وقد حاولت الجماعة نظريا تعديل خطابها السياسي الذي تمثل بوثيقة 2019، وقد كان هذا واضحا في أدبيات هذا الخطاب. لكن السؤال المهم والمركزي: هل تغيرَ الخطاب نتيجة قناعات داخلية وحوارات سياسية مُعمقة داخل الحركة والرغبة في إعادة صياغة العقل الإخواني تجاه قضايا ومفاهيم مثل المواطنة والدولة والديمقراطية؟ أم كان نتيجة استجابة لضغوطات خارجية فرضتها أحداث ما بعد الربيع العربي وسحب الترخيص القانوني من الجماعة والتشبث بالبقاء تحت أي ظرف؟
أعتقد بأن المحرك الرئيسي خلف الوثيقة هو الرغبة بالتكيف والبقاء في ظل الظرف السياسي المعقد برغم وجود توجهات حقيقية فكرية عند مجموعة من الأفراد والقيادات داخل الحركة باتت تؤمن بضرورة تغيير الخطاب الإخواني وتطويره، وهذا واضح عند نقاش مجموعات مختلفة من تيارات الإخوان المسلمين حول مسائل مثل: الديمقراطية، والمواطنة، ومفهوم الدولة المدنية، لتجد حينها إجابات مختلفة جذرية وتوجهات سياسية متباينة كما كان واضحا عند إعلان الوثيقة، حيث رفض بعض رموزهم علنا مفهوم الدولة المدنية مؤكدين أن الذي يمثلهم هو "مفهوم الدولة الإسلامية"، ناهيك عن عدم تطوير مناهج الإخوان الداخلية لتساهم في تطوير الأفكار القديمة وتعديلها؛ فما زالت كتب ومناهج الإخوان تتحدث عن عدم قبول "غير المسلم" في منصب الولاية العامة، سواء أكان وزيرا أو رئيسا للوزراء أو غير ذلك، وهو الأمر الذي يجب تطويره وتعديله مع أفكار أخرى عديدة لا يتسع المقال لحصرها، وذلك لمحاولة إعادة صياغة العقل الإخواني كي يتوائم مع أفكار وأدبيات وثيقة 2019.
الأجهزة الأمنية شريكة في إحباط التعددية الحزبية
لا يمكن الحديث عن أداء هذه الأحزاب دون الحديث عن أداء السلطات السياسية والأمنية في الأردن، وتحديدا عدم قدرتها على امتلاك رؤية استراتيجية ذكية عند التعامل مع حزب الشراكة، حيث دفعت الأجهزة باتجاه عزل الحزب وإغلاقه في مرحلة ما مُتعذرة بأسباب شكلية قاصرة كان منها: عدم تصديق عقد إيجار مقر الحزب من أمانة عمان، والذي دل بكل أسف على عدم وجود عقل قيادي استراتيجي في الدولة عند تعامله مع المسألة الحزبية في الأردن، إنما هو عقل يفكر بطريقة تقليدية كلاسيكية مرحلية "بالقطعة"، ولو كنت صاحب قرار سياسي لما فعلتُ كل ما فعلتهُ السلطة السياسية مع الحزب من تخويف وإقصاء وضغط أمني، ولفتحتُ له مجال العمل والانتشار حتى ينافس استراتيجيا حزبا إسلاميا آخر في الساحة السياسية وهو حزب الجبهة، وحينها تتوزع الأصوات الانتخابية بين هذه الاحزاب وتضمن وتتأكد الدولة عدم تفرد حزب بمقاعد كبيرة في حال حصول انتخابات نيابية أو غيرها.
إلا أن افتقاد الرؤية السياسية الاستراتيجية باعتقادي، قد دفع بهذا الاتجاه من القسوة عند التعامل مع الحزب، ولحرصتُ كل الحرص كذلك على بقاء فكرة (زمزم) بعيدة عن أي صبغة حكومية تؤثر في شعبيتها ووجودها وقبولها بين الناس، فبتنا في الأردن مع كل أسف نفتقد الرؤية السياسية الاستراتيجية عند المعارضة والدولة على حد سواء.
بقي أن أشير إلى أن التدافع السياسي بين المجتمع والسلطة هو تدافع طبيعي، وتحاول السلطات قدر الإمكان التشبت بكل الصلاحيات والمكاسب التي حققتها عبر عقود طوال، وليس سهلا أن تتخلى عن مراكزها ونفوذها لصالح تعزيز الشأن الديمقراطي، وهذا يُحتم على من يمارسون الشأن السياسي عبر العمل السياسي أن يتمتعوا بنسبة عالية من الذكاء وأن يمتلكوا عقلا سياسيا باردا يفكر بهدوء من أجل استيعاب العواطف الساخنة عند الجماهير، ومحاولة تفكيكها وإعادة تركيبها مرة أخرى للاستفادة منها وتحويلها إلى برنامج إصلاحي قابل للتطبيق، فالمجتمع المُدرك لطبيعة التدافع السياسي وبقيادة سياسية واعية هو الوحيد القادر على تحقيق مكاسب سياسية في المستقبل تدفع باتجاه التغيير الإيجابي.