ما الذي يقلق الأردن في شخصية الرئيس الأمريكي القادم؟

الصورة
الرئيس الأمريكي السابق ترامب والملك عبد الله الثاني في لقاء سابق في واشنطن | المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية
الرئيس الأمريكي السابق ترامب والملك عبد الله الثاني في لقاء سابق في واشنطن | المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية
آخر تحديث

في لقاء صحفي مع صحيفة "نيويورك تايمز" عام 1984، شن الملك الحسين رحمه الله هجوما عنيفا على إدارة الرئيس الأمريكي حينها "ريغان" متهما إدارته بأنها عديمة المبادئ وقد فقدت مصداقيتها وأنها لم تعد تعمل كوسيط نزيه في الشرق الأوسط بسبب ميلها الواضح إلى "إسرائيل" ودعمها غير المحدود لهم. 

وفي سؤال وجهته له مذيعة محطة "CBS" الأمريكية بعد هذا اللقاء الصحفي الذي أحدث هزة سياسية في أمريكا قائلة له: "إذا توقفت أمريكا عن دعمكم بالسلاح بسبب تصريحاتكم هل ستشترون الأسلحة من روسيا؟" فكانت إجابة الملك بوضوح بأننا في الأردن نعمل من أجل مصلحتنا الوطنية وتقوية دفاعاتنا العسكرية وسوف نتعاون مع أي دولة تحقق لنا ذلك. 

العلاقة الأردنية الأمريكية منذ عام 1949

في ندوة متخصصة تتعلق بالعنوان أعلاه قبل أيام تحدثتُ عن العلاقة الأردنية الأمريكية، وحاولت خلالها تسليط الضوء على عدة محاور سياسية من أجل محاولة فهم الواقع وتقديم تصورات تتعلق بمستقبل العلاقة مع أمريكا وتقديم نصائح لصانع القرار السياسي في الأردن، حيث أشرت إلى أن علاقة الأردن بأمريكا علاقة وطيدة ومتطورة عبر الزمن منذ عام 1949، حيث يعد الأردن من الدول "الحليفة والصديقة" ومن المؤكد أن سياسة أمريكا الرسمية مع الأردن لا تتأثر إطلاقا إذا كان الرئيس الأمريكي جمهوريا أو ديمقراطيا -إذا استثنينا المزاج الشخصي للرئيس- من حيث اعتبار الأردن من البلدان المستقرة سياسيا والتي لها أهمية جيوسياسية معقدة، ومن المؤكد أن العلاقة بين البلدين عابرة للإدارات الأمريكية وعابرة للحكومات الأردنية لأن الذي يدير الملف الخارجي وبشكل رئيسي هو الملك -وهذا ليس سرا- فالبوصلة لديه واضحة والعلاقة متينة وقديمة وعميقة، وكان هذا واضحا في حرب الخليج الأولى والثانية وفي التنسيق العسكري الأردني الأمريكي للرد على الهجوم الإيراني الذي تم قبل أشهر. 

4000 جندي أمريكي في الأردن بموجب اتفاقية التعاون الدفاعي

يوجد في الأردن تقريبا 4000 جندي أمريكي بموجب اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة بين البلدين عام 2021 بهدف تأطير برامج الدفاع المشتركة كما جاء على لسان وزير الخارجية الأردني. وتضمنت تلك الاتفاقية التدريب والتمارين المشتركة والمساعدات الأمنية وأنشطة التعاون المختلفة والمناورات العسكرية في مرافق ومناطق متفق عليها وصلت إلى 12 مرفقا عسكريا. 

غير أن هذه الاتفاقية بطبيعة الحال لاقت معارضة من تيارات سياسية مختلفة في الأردن لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا المقال، وكانت الأردن بالإضافة إلى ذلك أول دولة عربية توقع اتفاقية التجارة الحرة مع أمريكا عام 2000 وهي قائمة على أساس المصالح المشتركة بين البلدين في تحقيق الازدهار والاستقرار بحسب نصوص الاتفاقية. 

ويذكر أن هناك 400 شركة أردنية تصدر إلى أمريكا من قطاعات متعددة، ناهيك عن الدعم المالي والمساعدات التي تقدمها أمريكا للأردن بشكل سنوي والتي تمت برمجتها بموجب مذكرات تفاهم ليكون إجمالي ما سيتم تقديمه للأردن خلال ستة أعوام ما يصل إلى مليار ونصف المليار دولار حتى عام 2029. 

الأردن وأمريكا.. علاقة مستقرة 

بلا شك فإن الأردن بلد علاقته مستقرة مع أمريكا فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية والتعاون بكافة أشكاله بين البلدين، وكما أشار الملك عبد الله في أحد لقاءاته الصحفية بخصوص العلاقة مع رؤساء أمريكا تحديدا: 

"تربطني علاقة قوية جدا مع جميع الرؤساء، وهذا لأن والدي علمني أن أحترم منصب الرئيس كرأس للدولة". 

ومن تابع زيارات الملك الأخيرة لأمريكا يستطيع أن يدرك حرص الملك ومعه ولي العهد على زيارة أقطاب العمل السياسي وصانعي القرار ومراكز البحث والتخطيط والسياسيين الأفذاذ الذين يطلق عليهم في أمريكا لقب العقول المستأجرة "Borrowed Brains" عند الإدارتين الديمقراطية والجمهورية على حد سواء، فما الذي يخيف الأردن الرسمي من شخصية الرئيس الأمريكي القادم؟ وما هو أساس التوجس عند صانع القرار السياسي في الأردن من نتائج الانتخابات القادمة بعد أشهر قليلة؟ برغم هذا الرصيد المتين من العلاقات!. 

ما مشكلة الأردن الحقيقية مع الرئيس الأمريكي القادم؟

كمفتاح للإجابة فإن مشكلة الأردن الحقيقية مع الرئيس الأمريكي القادم تتعلق بوجهة نظره من طبيعة الصراع في الشرق الوسط وتحديدا كيفية تعامله مع القضية الفلسطينية وطبيعة تفاعله مع حل الدولتين الذي طرحه الأردن في جميع المحافل الدولية والذي يراه الملك بأنه الحل الوحيد للصراع. 

لكن قبل التفصيل في هذه الإجابة وإدراك خطورة تبعات وجهة النظر الأمريكية تجاه هذه القضية أردتُ تسليط الضوء على سؤالين هامين كمدخل للإجابة:

  1. ما سر هذا الدعم اللامحدود من أمريكا والغرب عموما الذي يغلب عليه التدين المسيحي "لإسرائيل اليهودية" وتحديدا في الحرب الأخيرة على غزة؟

  2. لماذا ركز نتنياهو في خطابه بتاريخ الـ25 من تشرين الأول 2023 على نبوءة إشعيا الواردة في العهد القديم "التوراة"؟ ولماذا قام بالتعريف عن نفسه عدة مرات بأنه هو الذي سيحقق هذه النبوءة؟ وخاطب العالم عدة مرات مستخدما مصطلحات من التوراة قائلا بأن:" أبناء النور" سيهزمون بلا شك "أبناء الظلام"؟. 

ما هي نبوءة إشعيا؟

لمزيد من التوضيح عن نبوءة إشعيا -أحد أنبياء اليهود- والتي وردت في التوراة، ولمعرفة كيف تسللت إلى الفكر المسيحي في الغرب لا بد من البحث في جذور العلاقة بين اليهودية والمسيحية هناك، حيث قام عالم اللاهوت الشهير من أصل ألماني مارتن لوثر في عام 1517 بالتمرد على البابا وعلى الكنيسة الكاثوليكية بحركة عُرفت بالبروتستانتية، وتلخصت أفكاره بعدم الاعتراف بسلطة الكنيسة الكاثوليكية على بقية الكنائس والمطالبة بزواج القساوسة وإنكار صكوك الغفران وغير ذلك من القضايا التفصيلية المتعلقة بالتثليث. 

غير أن أهم قضية تلخصت بدعوة لوثر إلى إعادة الاهتمام بالعهد القديم "التوراة" باعتباره مصدرا للعقيدة، واستطاع من خلال كتابه الأول "المسيح وُلد يهوديا" تحويل العلاقة في الغرب بين اليهود "المتهمين بصلب المسيح عليه السلام" والمسيحيين من علاقة عداء ونفور إلى علاقة تعاون تمت تبرئتهم فيها من دم المسيح هادفا إلى إدخال اليهود في المسيحية، إذ إن الديانة الكاثوليكية لا تؤمن بعودة اليهود إلى فلسطين لأنهم قد كفروا بالمسيح منذ ولادته، ويرفض المسيحيون كذلك اعتبار اليهود شعب الله المختار. 

أخطر ما جاءت به أفكار لوثر

غير أن أخطر قضية في أفكار لوثر بعد تبرئة اليهود تماما من دم المسيح تمثلت بربطه الإيمان المسيحي "بأنه لا نزول للمسيح لتحقيق ملكوت الرب في الأرض إلا بعد عودة اليهود إلى أرض الميعاد "فلسطين"". 

فتم استغلال أفكار لوثر لإنشاء حركة أيدولوجية يهودية مسيحية تسمى "بالصهيونية" والتي يتمثل هدفها الرئيس بجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود لتحقيق نبوءات العهد القديم، فأصبحت نبوءات العهد القديم جزءا من الأدب والثقافة في أوروبا، وتم إنشاء منظمات (صهيو-مسيحية) في أمريكا وأوروبا لدعم فكرة قيام دولة "إسرائيل". 

وتأسست البروتستانتية في أمريكا على أفكار المدرسة الإنجيلية "المشيخية" التي تؤمن بأن عودة المسيح الثانية لإنشاء الهيكل الثالث لن تتحقق إلا بعد أن يطرد اليهود كل من هو ليس يهوديا من فلسطين ويتولى المسيح حينها بحسب النبوءة حكم العالم من جبل صهيون لمدة ألف عام تسمى "الألف سنة السعيدة". 

موقف المسيحيين في الشرق من المسيحية الصهيونية

من المهم الإشارة إلى أن المسيحيين في المشرق لهم موقف مبدئي وواضح من هذه القضية، حيث عبرت جميع الكنائس في المشرق عن رفضها التام لأيدولوجيا المسيحية الصهيونية. وقد صرح على سبيل المثال رئيس الاتحاد اللوثري السابق الدكتور منيب يونان بأن الكنيسة الإنجليزية اللوثرية جزء من الحركة الإنجيلية في الشرق الأوسط التي تضم عدة كنائس، وأضاف أن لهذه الكنائس موقفا واحدا وواضحا من المسيحية المتصهينة لأسباب مختلفة، منها أنهم يقرؤون الكتاب المقدس بطريقة مغايرة عن طريقة الكنائس الأخرى الذين يعتبرون أن وجود دولة "إسرائيل" هي تتمة لنبوءات العهد القديم. 

أما المسيحيون في المشرق في الكنائس الإنجيلية الأصلية ومعها الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية وبقية الكنائس، فيعتبرون أن تتمة النبوءات هي في المسيح نفسه، وليس في أي كيان سياسي، واعتبر يونان أن هؤلاء "خوارج" على الدين المسيحي والكنيسة المسيحية.

%60 من الأمريكيين يعتنقون المذهب البروتستانتي الإنجليكاني

بكل أسف تغلغلت أفكار المذهب "البروتستانتي الإنجليكاني" في أمريكا، حيث وصل من يعتنقها من الأمريكيين إلى أكثر من 60% من الشعب الأمريكي الذين يؤمنون بوجوب دعم "إسرائيل" بصفتها من تحوي شعب الله المختار الذي سيطرد كل من هو غير يهودي من أرض الميعاد. 

وبالمناسبة فإن العديد من رؤساء أمريكا يتبنون هذا الفكر، وباعتقادي أصبحت المجموعات السياسية المؤثرة في أمريكا ومراكز صنع القرار السياسي والعسكري تنتمي إلى هذا المعسكر الذين يطلق عليهم لقب "المحافظون الجدد" الذين يؤمنون بمبدأ الدفاع عن "إسرائيل" وتعزيز النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وقد توزعوا بين مناصب حكومية وسياسية وأكاديميين وشخصيات عامة مؤثرة، وقد تجلت أفكارهم بتأييد الرئيس الأمريكي السابق ترامب -الذي انتخبه 81% من الإنجيليين- وهو الذي فهم بلا شك إشارة نتنياهو إلى سفر إشعيا، التي أراد منها نتنياهو توجيه رسالة إلى العالم الغربي لدخول الحرب ودعمه دعما غير محدود من أجل الانتصار في أرض الميعاد وهو الأمر الذي تحقق له بالفعل. 

اقرأ المزيد.. لقاء الملك مع بايدن طي لصفقة القرن وتحريك لعملية السلام

إذا كان الرئيس الأمريكي القادم هو ترامب.. ماذا يعني ذلك للأردن؟ 

ويبقى السؤال الهام ماذا يعني نجاح رئيس داعم بشكل مطلق وغير محدود لـ"إسرائيل" مثل ترامب لولاية ثانية بالنسبة للأردن؟ 

بالرغم من تنامي فرص المرشحة الديمقراطية "هاريس" وتزايد مؤشرات فرص نجاحها، لكن يبقى السؤال مشروعا، ولا بد من الخوض في هذه المسألة لأنطلق منها إلى مسألة أخرى تتعلق بالديناميكيات التي يمكن للأردن أن يتحرك من خلالها، فكما هو معروف أن الرئيس الأمريكي ترامب قد قابل الملك عبد الله مرة واحدة فقط أثناء سنوات انتخابه الأربع وكان ذلك في السنة الأولى فقط من إدارته، ولم يقابل الملك إطلاقا في السنوات الثلاث الأخيرة في قطيعة واضحة تؤكد تأثير مزاجية الرئيس "personal taste" على تحسن العلاقات أو تدهورها. 

غير أن الأمر الخطير في قدوم ترامب مرة أخرى يتعلق بالتخوف من دفعه باتجاه إنهاء وتحقيق صفقة القرن المطورة "Advanced Edition" التي تعني الضم الفوري لما نسبته 30% من أراضي غور الأردن والمستعمرات والقدس إلى "إسرائيل"، ثم يتم التفاوض على بقية الأراضي من الضفة الغربية المحتلة بحسب المزاج الإسرائيلي ورغبته حينها في التنازل عن بعض الأراضي للفلسطينيين، مما يعني تدفق أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني إلى الأردن وسقوط حل الدولتين وتطبيق الوطن البديل بحكم الواقع في الأردن، وهذا من شأنه أن يفرض ضغوطا إضافية على الاقتصاد الأردني أولا، ويزعزع بلا شك التوازن الديموغرافي ويفرض واقعا اجتماعيا وسياسيا وأمنيا يصعب التعامل معه خصوصا مع النهج الاقتصادي المتبع حاليا والمعتمد اعتمادا مباشرا على المساعدات الخارجية الأمريكية والأوروبية الذين قد يستخدمون هذه الورقة الاقتصادية للضغط على الأردن وإنهاء ملف القضية الفلسطينية على حساب الأردن والطرد الممنهج للفلسطينيين من أراضيهم. 

تخوفات من فقدان الوصاية الهاشمية في حال كان ترامب هو الرئيس الأمريكي القادم

هنالك تخوفات كبيرة كذلك في حال نجاح ترامب من فقدان الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، وهي الوصاية التاريخية منذ عام 1924 حيث ينطلق الموقف الأردني الثابت من أن القدس الشرقية أرض محتلة السيادة فيها للفلسطينيين، والوصاية على مقدساتها الإسلامية والمسيحية هاشمية، يدعم بموجبها الأردن الصمود الفلسطيني في القدس، لكن إذا أُنهيت الوصاية الهاشمية فإن 60% من أراضي القدس ستنتقل فورا إلى "إسرائيل" وهو الأمر الذي تسعى له "إسرائيل" وبرغم وجود فقرة هلامية في معاهدة وادي عربة تتعلق بالوصاية الهاشمية حيث تنص الفقرة الثانية من المادة التاسعة في الاتفاقية على ما يلي: 

"تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستولي إسرائيل أولوية كبرى لدور المملكة التاريخي في هذه الأماكن". 

لكن كيف نأمل من حكومة إسرائيلية غير أخلاقية متطرفة إلى حد الجنون، أن "تحترم" هذا الدور؟

هل ستتولى السعودية الوصاية على القدس بدل الأردن؟

في السياق ذاته، رشحت أخبار ومعلومات كذلك بأن إدارة ترامب في ولايته السابقة -معظمهم من المحافظين الجدد- كانت قد توصلت إلى شبه اتفاق مع المملكة العربية السعودية من أجل تولي ملف القدس بديلا عن الوصاية الهاشمية، وهو الأمر الذي كانت تدفع به تلك الإدارة هادفة إلى تقليص الدور الإقليمي للأردن وتهميش دوره السياسي بكل الوسائل الممكنة من أجل تنفيذ كافة متطلبات صفقة القرن حينها. 

وليس بعيدا التصريح الأخير لترامب المتعلق "باكتشافه" أن "إسرائيل" دولة ذات حدود ضيقة! وكذلك رغبة ترامب أثناء إدارته السابقة وقف الدعم عن "الأونروا" لعدم الحاجة لها بحسب تصريحاته، وكل ذلك من أجل تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين على حساب الأردن، وليس خارجا عن السياق. كذلك التذكير بأن الأردن لديه أكثر من ألف موظف في القدس وأكثر من 52 مؤسسة تعليمية تابعة للأوقاف و13 ألف طالب يدرسون في تلك المعاهد والمدارس، بالإضافة إلى العناية بأكثر من 100 مسجد وعدة كنائس منها كنيسة القيامة وكنيسة القبر المقدس.

ماذا يمكن أن يفعل الأردن أمام الرئيس الأمريكي القادم؟

لكن ماذا يمكن أن يفعل الأردن أمام كل هذه المخاوف "القريبة" المُقلقة، التي تمس سيادة الدولة وتشكل خطرا على مستقبل الأردن؟ سواء أنجح ترامب الذي سينسف حل الدولتين أم نجحت هاريس التي تؤمن "نظريا" بحل الدولتين؟ 

بناء علاقات سياسية متعددة الأبعاد لا تقتصر على الرئيس الأمريكي فقط

وأرى أن الأردن سيكون على "مفترق طرق" في القريب العاجل وقد تكون البداية لمحاولة السيطرة على هذه المخاوف وتبعاتها باللجوء إلى التخطيط الاستراتيجي الحقيقي والابتعاد عن التكتيكات المرحلية غير المرتبطة بأفق سياسي بعيد المدى، وذلك باتخاذ قرار في أعلى مستويات صناعة القرار في الأردن بالبدء بالتحول نحو بناء عمق استراتيجي جديد يتمثل بتحول تدريجي في العلاقات السياسية الخارجية نحو بناء علاقات متعددة الأبعاد، تتلخص ببناء جسور وعلاقات سياسية جديدة وتحالفات قوية مع الصين وروسيا وإيران وتركيا وغيرها من الدول، وأن لا يكون عمقنا الاستراتيجي مرتبطا ببناء تحالفات فقط مع أمريكا، بالإضافة إلى الاهتمام بالعمق العربي وردم الفجوات التي حصلت مع الدول العربية الشقيقة ومد يد التعاون والتنسيق على أعلى المستويات لأن القادم يبدو مقلقا. 

من المهم كذلك أن يتخلص الأردن من فكرة ربط اقتصادنا بالاقتصاد الإسرائيلي، فمن غير المعقول ربط ملف الطاقة جزئيا بإسرائيل ومن غير المقبول ربط ملف الغاز بإسرائيل، ولا يمكن أن أتصور كيف لنا أن نجعل ملف المياه يرتبط بإسرائيل كذلك حتى لو كان ربطا جزئيا، وقد جاء مشروع الناقل الوطني خطوة من الخطوات الهامة التي اتخذتها الحكومة الأردنية من أجل تعزيز أمننا المائي، ولا بد من تعزيزها بخطوات مشابهة، ولا بد للمفاوض الأردني كذلك أن يمتلك الخبرة الكافية قبل ذهابه إلى أي مفاوضات فلا يمكن أن تكون "مقاعد المفاوضات" مقاعد ترضية ومكافآت لمن لا يحسنون الحوار والنقاش والتفاوض في بعض الأحيان، فالمحاور يجب أن يكون من الخبراء ومن دهاة السياسة المتمرسين. 

وتوجد بلا شك لدى الأردن فرص حقيقية لتعزيز الاستقلال والأمن المائي والكهربائي عبر مشاريع تتعلق بالطاقة البديلة الممكنة في الأردن إذا تخلصنا من قصور الإرادة السياسية. 

يجب العمل على قوننة الوصاية الهاشمية في المحاكم الدولية

ومن المهم كذلك الدفع بقوة من أجل قوننة الوصاية الهاشمية في المحاكم الدولية بحيث تصبح وثيقة دولية معترف بها، فلا يمكن لهذه الوصاية الهامة على المقدسات الإسلامية والمسيحية والتي قامت منذ عام 1924 أن تكون تبعا للمزاج الإسرائيلي أو أن تذكر على خجل وبعبارات هلامية غير واضحة كما ذكرت في اتفاقية وادي عربة، بل يجب على الأردن الرسمي أن يتحرك باتجاه تثبيت هذا الحق دوليا وبعبارات ومصطلحات وصلاحيات واضحة، بحيث لا يمكن لأي دولة في العالم أن تفسر الوصاية كما شاءت أو أن تنقلها من دولة لأخرى. 

الأردن محاط بحزام جيوسياسي

يتمتع الأردن كذلك بموقع جيوسياسي حساس ودقيق يجعل كل دول العالم تراجع حساباتها بخصوص تأثيره في معادلة القوة في هذا الإقليم المتوتر؛ فهنالك حزام جيوسياسي يحيط بالأردن الذي بلا شك يجعل دوره مهما في الساحة الدولية، فحدودنا مع العراق طولها 179 كيلومترا وهي الدولة غير المستقرة سياسيا والتي نشاهد "الحشد الشعبي" فيها يحاول باستمرار عبور الحدود للقتال في الجبهة الغربية مما يشكل عبئا كبيرا على الجيش الأردني، ناهيك عن ضعف هذه الخاصرة أمنيا وعسكريا التي تتطلب جهودا أمنية عالية المستوى. 

أما حدودنا مع سوريا فهي 379 كيلومترا وهي الحدود غير المستقرة نتيجة غياب سلطة الدولة هناك؛ فعمليات تهريب الأسلحة والمخدرات تتم في كل يوم وليلة عبر الأنفاق المحفورة أسفل الحدود أو عبر الطائرات المسيرة أو غير ذلك من الوسائل، مما يشكل عبئا إضافيا على الدولة لحماية هذه الحدود من جهة سوريا التي يوجد فيها بحسب الإحصاءات الأخيرة ما يقارب 800 قاعدة عسكرية إيرانية وتركية وروسية وأمريكية، ناهيك عن أن حدودنا مع الضفة الغربية المحتلة و"إسرائيل" هي 455 كيلومترا وهي حدود ملتهبة تشكل أعباء عديدة لا تخفى على أحد، بالإضافة إلى أزمة اللاجئين في الأردن واستمرار انخفاض الدعم المادي للأردن والضغط الذي يحققه كل ذلك على البنية الاقتصادية والتحتية للبلاد، فوجود الأردن في هذا المحيط الملتهب هو نقطة قوة باعتقادي في التفاوض وتوسيع هامش المناورة السياسية وتحقيق مكتسبات أفضل للبلاد. 

20 وعدا رئاسيا جاهزا ليطبقه ترامب في حال كان الرئيس الأمريكي القادم

ليس غريبا أو مفاجئا بأن المرشح الرئاسي الأمريكي القادم "ترامب" قد جهز خطة انتقاله السياسي في حال توليه السلطة هناك؛ فتم إعداد ما يسمى "مشروع 2025" وهو مجموعة من مقترحات الانتقال السياسي التي تم إعدادها وتحريرها من كبريات المؤسسات الفكرية المحافظة في أمريكا "مؤسسة هيرتيج" بمشاركة 400 باحث وخبير سياسي والتي تضمنت خطة الـ180 يوما الأولى من ولاية الرئيس الأمريكي والتي تحوي 20 وعدا رئاسيا جاهزا للتطبيق فورا، سيكون على رأسها بلا شك قضية الشرق الأوسط بعدسة "ترامب" وذلك بتطبيق صفقة القرن وتنفيذها وإكمال ملف التهجير والطرد للفلسطينيين، فإذا كان هذا الرئيس الأمريكي مستعدا وجاهزا بعد أشهر معدودة فماذا نحن فاعلون؟ 

لا صديق دائم لأمريكا

تاريخيا لا يمكن الاعتماد على أمريكا من حيث اعتبارها حليفا أحاديا لأي جهة، والأمثلة في التاريخ السياسي الحديث تدل على ذلك، وكلها تدفع إلى ضرورة بناء تحالفات متعددة الاتجاهات مع دول مختلفة؛ فأمريكا كما يقول صاحب كتاب "كيف تبيع أمريكا أصدقاءها" لا يمكن سياسيا الوثوق بها فلا صداقة عندهم تدوم ولا وفاء يستمر، فليس هناك أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون، هناك دائما مصالح دائمة! 

فهذا "شاه إيران" الذي حصل على دكتوراة فخرية من 22 جامعة أمريكية، رفضت أمريكا منحه حق اللجوء السياسي في أراضيها بعد الثورة برغم كونه سابقا من الحلفاء الذين يشار إليهم بالبنان، حيث منحته فقط تأشيرة إنسانية لثلاثة أشهر لتطرده بعد ذلك من أراضيها، وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي تذكرنا بالواقع الذي لا يمكن القفز فوقه دون اعتبار؛ فالعلاقات الدولية يجب أن تكون متعددة الأبعاد التي ترتكز إلى حقيقة أن العلاقات مع اللاعبين الدوليين ليست بديلة عن بعضها. 

أخيرا نحن في أوقات عصيبة سياسيا ونعيش في إقليم ملتهب ولدينا عدو إسرائيلي متطرف ينظر إلى الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، ولدينا تحد كبير في شخصية الرئيس الأمريكي القادم تحديدا في كيفية تعامله مع ملف القضية الفلسطينية ونظرته إلى مبدأ حل الدولتين، لكن لدينا فرصا يمكن استثمارها إذا امتلكنا ذهنية استراتيجية، ولدينا هوامش للمناورة السياسية نستطيع العمل من خلالها ولدينا قدرة و"قوى كامنة" يمكن استغلالها ولدينا إمكانية لبناء تحالفات استراتيجية جديدة إذا أردنا ذلك من أجل تقوية الموقف الأردني للحفاظ على الأردن قويا حصينا منيعا في خضم هذا الجنون العالمي. 

اقرأ المزيد.. الصحافة الاستقصائية في الغرب

دلالات
شخصيات ذكرت في هذا المقال
الأكثر قراءة
00:00:00